يُشير مصطلح الأوامط إلى تلك الصور الرمزية أو الشخصيات أو الأفكار التي تتكرّر بشكل منتظم داخل الأعمال الأدبية، بحيث تكتسب طابعا عالميا مشتركا يتجاوز حدود الثقافة واللغة. ففي بِنْية النصّ الأدبي، تظهر الأوامط بوصفها عناصر مألوفة تلامس جوهر التجربة الإنسانية، وتمتلك قدرة عالية على التواصل بسبب اشتراك البشر في فهمها ضمنيا. ومن أمثلة ذلك، نجد قصة «التحوّل من الفقر المدقع إلى الثراء الكبير، أو شخصية «الخادم الجريء والساخر» في الملهاة، أو رمز «العاصفة الهوجاء» باعتبارها إيحاءً بالفوضى أو التغيير. يرى بعض الكُتّاب أن الأوامط «تحمل المعاني نفسها أو معاني متقاربة جدًّا لدى شريحة كبيرة من البشر، لأنّها تستبطن التجربة الإنسانية في أعمق صورها». تكمن قوّة الأوامِط في كونها رموزا جمعية تثير لدى القارئ دلالات فورية، من دون حاجة إلى شرح أو تفسير مباشر من الكاتب. فهي تُنقل معناها عبر الإدراك الرمزي المشترك، لتكوّن ما يشبه «كتلة معنوية مضغوطة» تحضر فور تلقيها. على سبيل المثال، تشير رموز مثل: فصل «الخريف» الدلالة على الأفول أو النضج، أو «الوادي» الانخفاض والانزواء، أو «الثعلب» المكر والدهاء، أو «الحية» الخداع أو الحكمة، أو «الحمل» البراءة والطهر، أو «النهر المتدفق» الحركة والحياة، أو «الزهرة» الجمال والزوال، أو «الانسجام الموسيقي» الاتزان الكوني، أو «النسر» العلو والسلطة، إلى دلالات واضحة ومباشرة، من دون حاجة لسياق تفسيري مفصّل.
وتظهر الأوامط كذلك في النصوص الدينية أو السياسية أو التاريخية التي توظف صورا مكثّفة ذات طابع رمزي، مثل قول النبي في العهد الجديد: قولوا لهذا الثعلب «هيرودس»، أو عبارة «زنت إسرائيل» في النصوص الدينية، حيث يستدعي السياق الرمزي النمطي معاني مركبة تتّصل بالخداع أو الخيانة أو الانحراف، من دون حاجة لتفسير صريح. من هنا، يمكن النظر إلى الأوامط بوصفها صورا حاكمة master images ينتظم المعنى حولها، وتعمل بمثابة مفاتيح رمزية للتأويل، إذ تُفعّل الاستجابة الفطرية أو الثقافية للقارئ، فتسهم في بناء تجربة القراءة بطريقة مركّبة وعميقة تتجاوز ظاهر النصّ. هناك مجموعة من الأوامط الشهيرة في الأدب العربي والغربي، من بينها:
- • عنترة بن شداد – أومط البطل المحارب : يمثّل عنترة شخصية البطل الذي يجمع بين القوّة والشجاعة والكرامة على الرغم من انحداره من خلفية اجتماعية مهمّشة. إنّه رمز للبطولة المرفوضة اجتماعيا والمقبولة أدبيا، ويعكس الأومط التقليدي للبطل الذي يواجه الصعوبات ويتفوّق عليها ليثبت ذاته.
- • الصحراء – أومط الفراغ الغيبيائي : الصحراء ليست فقط فضاءً إراضيا، بل تمثّل في الشعر العربي رمزا للتيه، والاغتراب، والعزلة، والانكشاف الوجودي. وقد استعملها الشعراء المعاصرون أيضا كصورة لانهيار المعنى، كما في أدونيس أو السيّاب.
- • الناسك – أومط الحكيم المنعزل : تتجلى هذه الصورة في شخصيات مثل لقمان الحكيم أو بعض المتصوّفة الذين ينسحبون من العالم ويتأمّلون فيه، ويقدمون حكمتهم للعالم من الخارج.
- • أوديب – أومط المصير المحتوم : في مسرحية أوديب ملكا لسوفوكليس، يتجلّى أوديب كرمز للمأساة المحتومة، حيث يسعى للهروب من نبوءة فيقع في شَرَكها. أصبح هذا النموذج أداة تحليل نفسي أيضا في نظرية فرويد.
- • فاوست – أومط الباحث عن المعرفة المدمِّرة : في فاوست لغوته، يبيع البطل روحه للشيطان مقابل المعرفة. هنا يُجسّد فاوست الطموح المفرط الذي يؤدّي إلى الهلاك، وهو من أشهر الأوامط الغربية في الحديث عن حدود العقل البشري.
- • دون كيشوت – أومط الحالم الواهم : يمثّل شخصية تحاول إحياء قيم قديمة في زمن تغيّرت فيه المعايير، فيجمع بين السذاجة والبطولة. وقد أصبح هذا الأومط رمزا عالميا للخيال النبيل في وجه الواقع الساخر.
- • الرحلة – أومط التحول والنضج : كثيرة هي الأعمال التي توظّف الرحلة كرمز للتطوّر الروحي أو الاجتماعي، من الإلياذة والأوديسة، إلى ديفينا كوميديا لدانتي، وحتى الخيميائي لباولو كويلو. الرحلة هنا تمثّل بحث الإنسان عن ذاته أو خلاصه أو حقيقته.
الأوامط ليست مجرد عناصر زخرفية بل هي أنماط عقلية ونفسية تتكرّر عبر الثقافات، وتمنح النصوص طابعا تأويليا أعمق، وتجعل القارئ في تفاعل مستمرّ مع الرموز والصور التي تعكس هواجسه وتجاربه. وقد أسهم كل من كارل يونغ Carl Jung ونورثروب فراي Northrop Frye في التنظير لفهم الأوامط بوصفها بِنى تحتية للخيال الجمعي.
1- أوامط يونغ النفسية :
قسّم كارل يونغ، عالم النفس التحليلي، الأوامط إلى صور نمطية تنبع من اليَوْع الجمعي collective unconscious ، أي الخزّان الرمزي المشترك بين جميع البشر، وهي رموز تتكرّر في الأحلام والأساطير والديانات. وأهمها:
- • الأنا الآخر – الظل : يرمز إلى الجوانب المكبوتة من الذات، الرغبات المظلمة، العنف، الخوف، أو النوازع المحرّمة. يظهر في الأدب في شكل الشخصية المعادية للبطل أو حتّى شخصية مزدوجة كما في دكتور جيكل والسيد هايد.
- • الأنيموس animus والأنيمَة anima : الأنيمة تمثّل الجانب الأنثوي في نفس الرجل، في حين يمثّل الأنيموس الجانب الذكوري في نفس المرأة. وغالبا ما يظهران في الأدب على هيئة شخصية غامضة، فاتنة أو ذات سطوة روحية، مثل بياتريتشي في الكوميديا الإلهية.
- • الذات : تمثل الكلّ المتكامل، نهاية الرحلة النفسية. تُجسّد في الأدب كشخصية الحكيم أو الصورة الكونية التي توحّد المتضادات.
- • الأم الكبرى : ترمز إلى الحنان والرعاية، ولكنّها تحمل أيضا وجها مظلما يتمثّل في السيطرة والاختناق العاطفي. تظهر في شخصية الأم، أو الأرض، أو الإلهة.
- البطل : الأومط الأكثر شهرة، يُمثّل شخصا يخرج من المألوف، يواجه التحدّيات، ويحقّق تحولا داخليا أو اجتماعيا. يتجسّد في أوديسيوس، أو عنترة، أو سوبرمان.
- • المخادع – المحتال المقدس : رمز للتحايل والتقلّب واللعب، ولكنّه ضروري في تحريك الأحداث وكشف الزيف. يظهر في الأدب الشعبي بشخصية جُحا، أو في الأساطير بشخصية لوكي الإسكندنافية.
2- أوامط فراي الأدبية :
أمّا نورثروب فراي، الناقد الأدبي الكندي، فقد نظر إلى الأوامط من منظور أدبي سردي، فربطها بالبِنْية العامّة للأنواع الأدبية، ورأى أنّ لكلّ نوع أدبي أنماطه الثابتة. وقد ميّز بين أربعة أنظمة رمزية أساسية ترتبط بالفصول الأربعة:
- • الرواية الأسطورية mythic mode – الصيف : حيث يكون البطل أقرب إلى الآلهة، وتنتصر فيه قُوى الخير. هنا نجد أومط البطل المقدّس أو المنقذ، وتظهر رموز مثل الشمس، النور، والنظام الكوني.
- • الرواية العاطفية romantic mode – الربيع : البطل أقوى من البشر، ولكنّه ليس إلها. تدور الحكاية حول الانتصار على الشر، غالبا عبر الحبّ أو المغامرة، وتظهر فيها رموز التجديد، الماء، والخصوبة.
- • الملهاة comedy – الخريف : تُظهِر عالَما مختلّا يُعاد إصلاحه في النهاية من خلال الزواج أو المصالحة. تظهر أوامط مثل الخادم الماكر، الشيخ المُتسلِّط، أو العاشق المُضلَّل.
- • المأساة tragedy – الشتاء : يتّجه السرد نحو السقوط أو التدهور، والبطل غالبا يكون مقهورا بمصيره. الأوامط هنا تشمل الضحية، والمنفي، والملك المحتضر، والأفعى المميتة.
- • الهجاء satire والتفارق irony – لا يوجد فصل محدّد : العالم مختلّ بلا أمل في الخلاص. يتلاعب الكاتب بالأوامط لا لهدف جمالي، بل لكشف الزيف والفساد، ويشيع فيه استعمال أومط المهرّج أو الدجّال.
يُظهر هذان المنظوران —النفسي عند يونغ، والأدبي الرمزي عند فراي— أنّ الأوامط ليست مجرّد تكرارات جامدة، بل هي بِنى رمزية عميقة تحرّك التخييل البشري وتوجّه الفهم والمعنى، سواء في النصوص الأدبية، أو الأحلام، أو السلوكيات الثقافية. وكلّما تعمّق القارئ في هذه الرموز، استطاع أن يستنبط تأويلا أكثر ثراءً وإضاءة للنصوص التي يقرؤها.
3- أومط السندباد البحري :
هو تعبير يُستعمل للإشارة إلى رمز متكرّر في الأدب والأساطير، يستمد خصائصه من شخصية السندباد البحري كما ظهرت في ألف ليلة وليلة، وتطوّرت لاحقا في الثقافة العالمية. يُجسّد هذا الأومط نمطا من الشخصيات والرحلات يقوم على العناصر الآتية:
- • الرحّالة المغامر : السندباد مثال للشخص الذي لا يكتفي بحدود الواقع أو الاستقرار، بل يبحث عن الجديد والمجهول، مدفوعا بحبّ الاستطلاع أو الحاجة إلى الثروة أو المجد.
- • التجربة الكاشفة : لا تكون الرحلة مجرّد تنقّل إراضي، بل تجربة تحويلية. يواجه السندباد المخاطر، والمخلوقات العجيبة، والشعوب الغريبة، وحتى الموت، ليعود وقد تغيّر.
- • العودة بعد المحنة : يُشبه في هذا أومط البطل العائد كما في ملاحم هوميروس فالعودة إلى الوطن بعد كلّ مغامرة، محمّلة بالحكمة والغنيمة، عنصر جوهري.
- • الدورة المتكررة : في قصص السندباد، لا تحدث رحلة واحدة بل سبع رحلات، ما يعكس نمطا دوريا من: الرغبة، والانطلاق، والخطر، والنجاة، ثم العودة. وهذا عنصر أومطي شائع في السرد التقليدي.
- • التفاعل مع العجيب والمجهول : يظهر في مواجهة مخلوقات كالغيلان، والجنّ، والعمالقة، والطيور العملاقة، وهي كلها رموز لما هو غير معروف أو مكبوت في نفس الإنسان.
يمثّل أومط السندباد في السياق الرمزي الإنسان الساعي للمعرفة والثروة واختبار الحدود. نفسيائيا حسب يونغ، قد يجسّد السندباد الأنا ego في رحلة بحثه داخل اللاوعي ومواجهته الظلّ والأنيما من خلال الكائنات الغريبة التي يلقاها. أدبيًا حسب فراي، ينتمي أومط السندباد إلى عالم الرواية العاطفية أو الملهاة الملحمية حيث يتم الانتصار على قُوى الفوضى بواسطة الحيلة أو الحظ أو الشجاعة. يتكرّر هذا الأومط في العديد من الشخصيات مثل: غوليفر gulliver في رحلات غوليفر لجوناثان سويفت. جاك سبارو في قراصنة الكاريبي. تان تان في مغامراته الرِّسْتامية. وحتى ماركو بولو في السرد التاريخي والإسطاري.
أومط السندباد البحري هو تجسيد رمزي لرغبة الإنسان في تجاوز حدوده، ومواجهة المجهول، والتعلّم من التجربة، والعودة إلى الذات وقد تغيّر. وهو أومط حيّ وفعّال في الأدب الشعبي، وفي السرد الفلسفي، وفي الرواية المعاصرة، لأنّه يتّصل بجوهر النفس البشرية: حبّ المغامرة، واختبار العالم، ومغالبة المصير.
4- لماذا ينتهي القليد الغربي غالبا بزواج البطل؟ هل في ذلك رمزية؟
ليس من قبيل المصادفة أن تنتهي كثير من الأقلدة الغربية بزواج البطل أو باكتمال العلاقة العاطفية، بل إنّ ذلك يعكس بنية رمزية وسردية عميقة الجذور في الثقافة الغربية، تعود في أصولها إلى الأسطورة والأدب والدين. ففي التراث السردي الغربي، يُعدّ الزواج رمزا للانسجام والنظام، ومؤشّرا على اكتمال الرحلة الاستعبارية وتحقيق التوازن بعد الفوضى. ويستند هذا المعنى إلى أوامط تشكّل البِنْية التحتية للخيال الجمعي، وَفْق ما أوضحه النقّاد أمثال كارل يونغ ونورثروب فراي. في هذا السياق، يمثّل الزواج نهاية نمطية للأعمال الملهاتية أو العاطفية، حيث يكون الصراع بداية لاضطراب اجتماعي أو نفسي، تنطلق بعده الرحلة نحو الاستعادة، وتُتوّج في النهاية بوحدة تجمع المتضادّات وتعيد الانسجام إلى العالم. ويؤكّد فراي أنّ هذه البنية تتكرّر عبر الأعمال الأدبية بصيغ متعدّدة، ويكون الزواج فيها رمزا للخصوبة والتجدّد والعودة إلى الحالة الطبيعية.
أما في المَخالة، ولا سيما في أقلدة هوليوود، فإنّ هذا النمط يظهر بجلاء في ما يُعرف برحلة البطل the hero’s journey، وهو النموذج السردي الذي نظّر له جوزيف كامبل Joseph Campbell في كتابه البطل ذو الألف وجه the hero with a thousand faces ففي هذا النموذج، يخوض البطل مغامرة تبدأ من دعوة للخروج من المألوف، وتمرّ بمراحل من الاختبار والمحنة، لتنتهي بالحصول على المكافأة the reward، لأن البطل بعد أن عانى وتحوّل، يستحق النعيم الأرضي والذي يتجسّد غالبا في صورة المرأة، أو الحبيبة، أو الارتباط العاطفي، أو حتى القُبلة النهائية، باعتبارها تتويجا رمزيا للرحلة، وإعلانا عن اكتمال الذات البطولية. هذا التمثيل ليس وليد العصر الحديث، بل يمتدّ إلى الأساطير القديمة: فالبطل الذي يقتل التنين وينقذ الأميرة لا ينال فقط حبّها، بل يستعيد عبرها النظام الملكي، ويعيد تأسيس المدينة. وهكذا يصبح الزواج فعلا رمزيًا مزدوج الدلالة: مكافأة فردية للبطل، وإعلانا جماعيا عن عودة النظام والعدالة.
ومع ذلك، لا يخلو المشهد المعاصر من تحوّلات في هذا النمط. فمنذ أواخر القرن العشرين، بدأت بعض الأقلدة تكسّر هذه القوالب: فأصبحت المكافأة لا تتحقّق بعودة البطل إلى المجتمع بشرطٍ جديد، هو النضج مع الحب، بل في بعض الحالات هي التحقّق الذاتي self-realization، أو الانتصار الأخلاقي، أو حتى النجاة من الفوضى من دون الحاجة إلى مكافأة عاطفية. ومع تنامي التيّارات النسوية والتيارات الوجودية في المَخالة، باتت نهايات بعض الأقلدة تتجنّب هذا الإغلاق العاطفي التقليدي، وتستبدله بتأمّلات مفتوحة أو نهايات فردية. ومع ذلك، يبقى الزواج –أو صورته الرمزية مثل القُبلة أو إعلان الحبّ– مكوّنا أساسيا في كثير من الأقلدة الملهاتية العاطفية أو القصص الخيالية، لأنّه يؤدّي دورا سرديا محدّدا في استعادة النظام، وتأكيد التحوّل، وتقديم خاتمة تُرضي التوق الجماعي إلى النهاية السعيدة.