نشأت مدرسة شيكاغو في النقد الأدبي بوصفها تيّارا فكريا تفرّع عن النقد الجديد new criticism، لكنّها كانت، من نواحٍ عدّة، مهرطقة بالقياس إلى المبادئ التي أرساها ذلك التيّار، حيث تبنّت منهجا مختلفا جِذْرانيا في تحليل النصوص الأدبية. وقد ظهر هذا التيّار في جامعة شيكاغو خلال أواخر الثلاثينيات وامتدّ تأثيره في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وكان يُعرف أعضاؤه أحيانا باسم أتباع أرسطو في العصر الحديث neo-aristotelians، نظرا لاعتمادهم الكبير على الفكر البلاغي والنقدي لأرسطو. يُعدّ رونالد سالمون كرين Ronald Salmon Crane الشخصية المحورية في هذه المدرسة، وقد دعا إلى مقاربة مرنة للنصوص الأدبية، تقوم على انتقاء المنهج التحليلي المناسب بحسب طبيعة المسألة المدروسة، رافضا بذلك الصرامة المنهجية التي اتّسم بها النقد الجديد. وبينما ركّز النقّاد الجدد على الشعر ورفضوا السياقات التاريخية، انشغل أتباع مدرسة شيكاغو بتحليل بِنْية السرد، لاسيّما في الرواية، ولم يتردّدوا في الاستفادة من أدوات البلاغة التقليدية والتاريخ الأدبي. في هذا السياق، يُبرز الناقد واين سي. بوث Wayne C. Booth، في عمله المؤسّس البلاغة النثرية The Rhetoric of Fiction, 1961، تأثّره العميق بأفكار الأرسطُوِيين الجدد، حيث قام بدراسة الصِّنْعات البلاغية rhetorical techniques التي يستعملها الكتّاب للتأثير في القارئ، وطرح مفاهيم مركزية أصبحت لها مكانة راسخة في نظرية السرد، من أبرزها التمييز بين المؤلّف الفعلي actual author وصوت المؤلّف أو المؤلّف الضمني implied author، كما ميّز بين الراوي الموثوق reliable narrator والراوي غير الموثوق unreliable narrator وقد أسهمت هذه المفاهيم في ترسيخ فكرة أنّ المؤلفين لا يقدّمون نصوصهم بحياد تامّ، بل يسعون إلى تمرير قيمهم ومواقفهم عبر سَنَافة السرد، لا سيما من خلال لسان الراوي الموثوق الذي يعمل كواجهة تمثيلية لموقف المؤلّف تجاه القارئ.
كانت مدرسة شيكاغو، منذ نشأتها، تتبنّى موقفا نقديا واعيا تجاه النقد الجديد، الذي انصبّ جلّ اهتمامه على الشعر الغنائي، وركّز على «النصّ في حدّ ذاته» بمعزل عن أي سياق تاريخي أو نفسي أو بلاغي. وقد رفض أتباع مدرسة شيكاغو هذا الانغلاق المنهجي، معتبرين أنّ الأدب –لاسيّما الرواية– لا يمكن فهمه على نحو شامل دون الرجوع إلى عناصر البلاغة rhetoric والنية التواصلية للمؤلّف. فبينما سعى النقّاد الجدد إلى إقصاء السياقات الخارجية والاحتكام فقط إلى البِنْية الداخلية للنصّ، آمنت مدرسة شيكاغو بضرورة استحضار الوظيفة البلاغية التي يؤدّيها النصّ في مخاطبة القارئ. ورأوا أنّ الفهم الجمالي والتأويلي العميق للعمل الأدبي لا يتحقّق فقط من خلال تتبّع التراكيب والأساليب، بل أيضا من خلال تحليل الأثر المقصود الذي يسعى المؤلّف إلى تحقيقه عبر وسيط بلاغي معيّن، سواء أكان شعرا أم سردا. ومع أنّ اهتمام المدرسة بالشعر لم يكن غائبا تماما، فإنّ تركيزها الأكبر انصبّ على السرد، لما يتيحه من تنويع بلاغي وتراكب بين مستويات الخطاب. فقد رأى الأرسطويّون الجدد أنّ الرواية، بوصفها نوعا أدبيا حديثا، توفّر ميدانا غنيا لتحليل الوسائط البلاغية المختلفة، وأنّ البلاغة ليست تزيينا للقول، بل وسيلة مركزية لفهم الكيفية التي يُبنى بها الخطاب السردي. لقد كانت نظريتهم استئنافا حديثا لما يمكن تسميته بالبلاغة الأرسطية aristotelian rhetoric، التي تربط بين الإقناع والأسلوب والمعنى المقصود. وقد سعى هؤلاء النقّاد إلى توسيع أفق البلاغة لتشمل «بلاغة الشكل» و«بلاغة الصوت السردي» و«بلاغة الخطاب الضمني»، رافضين الفصل التام بين الأدب والفكر، وبين البِنْية والأسلوب، وبين المؤلّف والقارئ. في ضوء هذا التصوّر، كانت مدرسة شيكاغو تمثّل مشروعا متكاملا لإحياء دور البلاغة في تحليل النصوص الأدبية، مع التركيز على الاحتراكية السردية والعلاقات التبادلية بين الكاتب والمتلقّي، وهو ما مكّنها من التأثير في عدد من الاتجاهات اللاحقة في النقد الأدبي، لاسيّما في ما يُعرف اليوم بالسِّرْدِياء narratology أو نظرية السرد و*البلاغة السردية rhetorical narratology.
- النظرية الأدبية. ديفيد كارتر. ترجمة الربيز: باسل المسالمة. دار التكوين، الطبعة الأولى، 2010م. دمشق، سوريا.