معجم المصطلحات الكبير
بَحْدَثة
الاجتماع

البَحْدَثة، هي فترة تاريخية تلت الحداثة، ولها تعريف أقلّ وضوحا. طبيعتها أكثر تعدّدا وتنوّعا اجتماعيا من الحداثة التي سبقتها. يقال إنّ البحدثة نشأت في مطلع سبعينيات القرن العشرين فصاعدا. بدأ «منعطف البحدثة» في النظرية الاجتماعية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي على الرغم من أنّ مفهوم البحدثة يقع في عقد سابق في الثقافة والفنون. ففي فنّ العمارة، على سبيل المثال، ظهر أسلوب جديد أخذ عناصر من سَتَلة من الأنواع الموجودة كي يبني عمارات غريبة المنظر -مثل عمارة لويد في لندن- التي «نجحت» بطريقة أو بأخرى. وُصفت هذه المنهجية من اللعب بمزج الأنواع والأساليب وتلاؤمها بأنّها بحدثية. ففي مجال المَخالة (السينما)، مزجت العوالم الغريبة التي خلقها المخرج ديفيد لنشفترات فترات تاريخية، جامعة بين مشاهد عنف شديد، وانحراف جنسي بصحبة قصص حبّ وأخلاق من النمط القديم. استمرّ التوجّه البحدثي في ميادين عدّة في العمل الفنّي. وأخيرا، وجدت العلوم الاجتماعية نفسها في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين مضطرّة للاهتمام بالبحدثة. يمثّل كتاب فرنسوا ليوتار (1984م): «الوضع البحدثي» postmodern condition العمل الرئيس في علم الاجتماع، حيث أبرز فيه مقولته: إنّ بنودا رئيسة للمجتمع الحديث كانت تخسر مكانها المركزي. رأى ليوتار أن هذا الوضع ينطبق خاصة على العلم الذي كان الشكل المهيمن للمعرفة في الفترة الحديثة. فقدَ العلم مشروعيته لأنّ الناس بدأوا يبحثون عن أشكال معرفية محلّية للمعرفة مثل: المعرفة الشعبية القديمة، والعقائد الدينية والعامّة، المبنية على الفطرة السليمة. يجادل ليوتار في أنّ إزاحة مركزية العلم عاملة على انبثاق مجتمع بحدثي. ويعتبر زيغمونت باومان، وجان بودريار من بين المنظّرين الآخرين الذين كان لهم تأثير كبير في نظريات البحدثة.

يتّصف تفكير البحدثة بالتنوّع ويعطي المنظّرون العناصر المختلفة المقترنة بالتحول المنتظر في مجتمع البحدثة، أولوية. يتمثل غرض معظم ما بعد الحداثيين في محاولة المنّظرين الاجتماعيين، من كُونت وماركس إلى غيدنز، في إدراك اتجاه التاريخ وشكله. ففي نظر هؤلاء المنظرين، إن عملية التغيير التاريخي منظمة البنية، «واضحة الاتجاه» فهي تصنع التقدم، فالنظرية الماركسية، على سبيل المثل، ترى أنّ هذه الحركة التقدّمية هي حركة تغيّر في الرأسمالية نحو مجتمعات اشتراكية وشيوعية أكثر مساواة. لكن مفكري البحدثة يرفضون مثل هذا التنظير الكبير. تأكّلت الثقة التي وضعها الناس من قبل في العلم والسياسيين والتقدّم البشري في مسيرة التاريخ، وذلك بسبب الخوف من الحرب النووية أو الكوارث البيئية، فضلا عن النزاعات المتواصلة وحوادث الإبادات الجماعية، الأمر الذي يفسد المظهر الحضاري الخادع للمجتمعات الحديثة.

وصف ليوتار هذه العملية بأنها انهيار «السرديات الكبرى»، أي تلك الحكايات الكبيرة التي برّرت احتراما للعلماء والخبراء وأصحاب المهن الراقية، فمصير عالم البحدثة ليس الاشتراكية، ولكن سيكون في نهاية المطاف عالما متعدّد الطبيعة ومتنوّعها، فالصور تدور حول العالم في عدد لا يحصى من الأقلدة (الأفلام) والأشرطة المرئية والنهاجل الرَّناتية (البرامج التلفزيونية) والمواقع التِّقانية (الإلكترونية)، كما أنّنا على تواصل مع أفكار وقيم كثيرة. لكن، لهذه الأشياء رابط صغير مع المجالات التي نعيش فيها أو مع تواريخنا الشخصية. يبدو أنّ كلّ شيء في تقلّب دائم.

يجادل جان بودريار في أن وسائل الإعلام التقانية دمّرت علاقتنا بالماضي، محدثة عالما فارغا ومشوّشا بالكامل يتأثّر فيه المجتمع فوق كلّ شيء بالإشارات والصور. يرى بودريار أن البروز الصاعد لوسائل الإعلام الجماهيري يحدث تأكّلا في الحدود بين الواقع وصورته، تاركا «واقعا واحدا ضخما» فقط نعيش فيه جميعا. ففي عالم الواقعية المفرطة hyperreality، يصبح إدراكنا الحسّي للحوادث وفهمنا للعالم الاجتماعي معتمدا كثيرا على رؤيتنا له عبر وسائل الإعلام مثل الرَّناة. كان كتابا بودريار المثيران (1995م) «حرب الخليج لن تقع» the gulf war will not tak، و«حرب الخليج لم تقع» the gulf war did not tak place يهدفان إلى إظهار كيف أنّ «حوادث العالم» الحقيقي الرئيسة ظاهريا مثل الجيوش المتحاربة في الكويت وتقارير وسائل الإعلام الثانوية ظاهريا عنها كانت فعلا جزءا من الحقيقة المفرطة الواقعية نفسها. تتمثل طريقة جيدة حول التفكير في أفكار البَحْدثة كما يقع تداولها في علم الاجتماع، في التمييز بين المعتقدات الرئيسة للتغير الاجتماعي البحدثي وقدرة علم الاجتماع على تفسير وفهم هذا. فالنمو السريع وانتشار وسائل الإعلام الجماعية وصِنْعات الاعتلام (تقنيات المعلوماتية) الجديدة وازدياد حركات الناس عبر الحدود الوطنية وزوال هوّيات الطبقات الاجتماعية وبروز مجتمعات متعدّدة الثقافة، جميعها تغييرات. يقول مفكرو البحدثة إنّها تقودنا إلى خلاصة أنّنا لم نعد نعيش في عالم حديث منظّم من طرف دول وطنية. فالحداثة توقّفت ونحن ندخل عهد البحدثة. وتُطرح الأسئلة المتمثّلة في مدى استطاعة علم الاجتماع «الحديث» أن يحّلل على نحو واف المراد بعالم «البحدثة»: هل هناك علم اجتماع بحدثي؟ أو هل عواقب التغيير البحدثي هي تغير جذري جدّا، يجعل النظريات والمفاهيم الحديثة أمورا لا حاجة إليها؟ هل نحتاج إلى علم اجتماع بحدثي لعالم بحدثي؟

ثمّة منتقدون كثر لنظرية البحدثة. يجادل بعض علماء الاجتماع في أنّ مُنظّري البحدثة هم أساسا متشائمون ومرعبون من الجانب الحالك للحداثة، الأمر الذي يجعلهم يميلون أيضا إلى نبذ جوانبها الإيجابية. مع ذلك، هناك منافع واضحة للحداثة مثل تقدير المساواة والحرّية الفردية والطرائق العقلية في التعامل مع المشكلات الاجتماعية. بعض التغييرات الاجتماعية التي تصفها نظرية البحدثة تساندها أيضا على نحو هزيل دراسات ميدانية (تجريبية). فعلى سبيل المثل، إنّ الفكرة القائلة إنّ الطبقة الاجتماعية وأشكالا جماعية أخرى لم تعد تنظّم الحياة الاجتماعية، تاركة الأفراد لرحمة صورة وسائل الإعلام الجماعية، هي فكرة مبالغ فيها. على الرغم من وجود مصادر كثيرة للهوّية الآن، إلاّ أنّ الطبقة الاجتماعية تبقى عاملا رئيسا محدّدا مكانة الناس الاجتماعية وحظوظهم في الحياة.

على نحو مشابه، هناك دليل كبير على أن الإعلام يؤدّي فعلا دورا أكثر أهمّية من الفترات السابقة، لكنّ هذا لا يفيد بالضرورة أنّ الناس يتأثّرون ببساطة بمحتوى الإعلام. هناك مجموعة كبيرة من البحوث تبيّن أنّ مشاهدي الرَّناة، مثلا، يقرأون محتوى الإعلام ويفسّرونه بفاعلية، انطلاقا من حالتهم الخاصة. ومع مجيء شبكة المواقع التِّقانية العالمية، وُجدت أيضا وسائل اعتلامية بديلة ومصادر ترفيه كثيرة يعتمد الكثير منها على التفاعلات بين المزوّدين والمستهلكين، مُحدثة كمّية أكبر بدلا من كمّية أصغر من التعليق والتقييم الانتقاديين لمردود الإعلام السائد. وأخيرا، حتّى إذا كانت هناك تغييرات حقيقية ومؤثّرة مطروحة من طرف البَحْدثيين، فإنّ الدليل على أنّها تؤدّي إلى تغيّر جذري يتجاوز الحداثة يبقى أمرا مرهونا بالجدل النظري.

كان حتميا على مفهوم البحدثة أن يكون مثيرا للخلاف نظرا إلى أنّ علم الاجتماع نفسه متجذّر في المقاربة الحداثية. فماذا يحتمل أن يكون جدوى علم الاجتماع إذا تركنا جانبا محاولة فهم وتفسير الواقع الاجتماعي وتطبيق تلك المعرفة لمصلحة تحسينه؟ على الرغم من ذلك، فإنّ فكر البحدثة كان له تأثير طويل المدى في علم الاجتماع. ففتح السبيل لرؤى متعدّدة وتفسيرات متنوّعة للواقع الاجتماعي نفسه، يعني أن علماء الاجتماع يستطيعون النظر إلى الثقافة العامّة أو القيم المشتركة في المجتمع على أنّها خالية من المشكلات، لكن يجب عليهم أن يكونوا حسّاسين للتنوع الثقافي.

يقدّم ماك غيغان وصفا ممتعا للجدل الحداثي والبحدثي؛ إذ يرى أن أفضل طريقة لرؤية المجتمعات المعاصرة هي النظر إليها على أنّها ثقافة بحدثية. لكن في جميع المعالم الأخرى، فإنّ الحداثة العالمية، وخاصّة الاقتصادية تبقى على ما هي عليه. باختصار، نحن لا نعيش أو نتوجّه نحو عصر بحدثي، لكن هناك أمثلة كثيرة في مجتمعاتنا على ثقافة بحدثية. فالبحدثة ليست مقصورة على عدد صغير من الأعمال الفنّية الريادية، لكن يمكن أن توجد أيضا في منتوجات ثقافية عالمية وكذلك في أفكار دَيْوَنية (أكاديمية) وفلسفية. وعلى غرار جايمسون وآخرين، يقترح ماك غيغان أنّ الحداثة والبحدثة ليستا متعارضتين بل متكاملتين. ولمّا فسح في المجال الانتاج الجماعي المتجانس ذو المناهج الصناعية الفوردية للإنتاج المتنوّع لمصلحة الأسواق الملائمة في السبعينيات من القرن الماضي، بدت ثقافة تعدّدية فردانية وبحدثية «ملائمة» جدّا لشكل الإنتاج الصاعد. (مفاهيم أساسية في علم الاجتماع. أنتوني غيدنز، فيليب صاتن).

تعليق

البَحْدَثة، اختصار لعبارة «ما بعد الحداثة»، وذلك لجعلها كلمة مفردة تسهل النسبة إليها، ويمكن استخراج اسم الشخص المتخصّص في دراستها، فيُقال بَحْدَثي، وصيغة الجمع بَحْدثيون، والتأنيث بحدثية وصيغة جمع التأنيث بَحْدَثِيات. مصطلح البحدثة في العربية هو postmodernity في اللغة الكلزية، ومصطلح «البحدثية» يقابل postmodernism والذي يُعرف باسم «الحركة ما بعد الحداثية».

مترادف

ما بعد الحداثة

لغة كلزية

postmodernity

[post أصلها في العربية على قواعد الاستفان «بعد»، فالحرف «s» قبل «t» ملتّب، أي مزيد زيادة قياسية، والحرف «t» يبدل من دال، أمّا الحرف «o» فيقابل العين في العربية، نجد مثال ذلك في كلمة odeur أصلها عطور، وعلى ذلك تكون جذيلتها pod وهي مبجّدة في الكتابة. كلمة modern أصلها مُعدَّل بمعنى محسّن، الحرف «r» يبدل من لام، والحرف «n» التنوين في العربية، جذيلتها model وهي نفسها model التي تعني مثال، نموذج، وهي معدّل أيضا]

لغة فرنسية

postmodernité
مراجع

  • مفاهيم أساسية في علم الاجتماع. أنتوني غيدنز، فيليب صاتن. ترجمة: محمود الذوّادي. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2018م. الظعاين، قطر.