معجم المصطلحات الكبير
تَوْقِيع أَدَبي
اللغة والأدب

تعدّ التوقيعات جنسا نثريا أدبيا له سماته الخاصّة، وهي عبارات بليغة وموجزة يكتبها الخليفة أو الوزير أو الوالي أو من ينوب عنهم من عمّالهم على الخطابات أو الطلبات التي تُرفع إليهم بما يتضمّن الرأي فيها أو التوجيه، كأن يكتب إلى وزير في غرض ما فيكتب الرئيس تحته بما يفيد وجوب الفحص أو قضاء المأرب. ليس كلّ توقيع يصلح أن يكون توقيعا أدبيا، إنّما يشترط فيه ليكون كذلك: الإيجاز مع البلاغة والإقناع، أي يجب أن تكون ألفاظه قليلة تدلّ على المعنى الغزير، ويكون مناسبا للقضية التي قيل فيها، وأن يتضمّن وضوح الحجّة وقوّة المنطق ما يدفع صاحب الطلب إلى التسليم بالردّ وقطع المراجعة. ظهرت التوقيعات في الأدب العربي في صدر الإسلام عند الخلفاء الراشدين وازدهرت في عهد بني أمّية، وقد ذكر صاحب العقد الفريد أمثلة من توقيعاتهم وتوقيعات الخلفاء الأمويين، وقد كثرت في العصر العبّاسي، وأقبل عليها الكتّاب إلى درجة نشوء ديوان سُمّي «بديوان التوقيعات»، إلا أنها في القرنين السادس والسابع الهجريين ازدادت طولا وإطنابا. كثيرا ما تشتمل هذه التوقيعات على شيء من القرآن الكريم، أو الحكمة البالغة، أو القول السائر، أو الشعر، أو غير ذلك، وهي مع بلاغتها وإيجازها وعمقها في المعنى وخلوّها من السجع المتكلّف تمتاز بجمال التصوير، ولطف الإشارة، وقوّة التعبير والإثارة وسلامة العبارة، ولا تكون إلاّ ردّا على رسالة أو خطاب، وقد تتضمّن عتابا، أو تحذيرا، أو تقريعا، أو نصحا وإرشادا، أو توضيحا، أو توجيها، أو استفهاما تهكّميا. وهي بصورة عامّة لا مجال فيها للتملّق والمداهنة. يعتمد الكاتب في صياغتها على فطرته السليمة، وموهبته الفذّة، وبديهته الحادّة، وعلى الارتجال، والتجربة، والخبرة، وإجالة الفكر، وإعمال العقل، فتجيء كاملة الصياغة، تامّة التراكيب، لا حشو فيها ولا زيادة ولا تطويل ولا إطناب. لا تعتني بالتشبيهات أو الصور إلاّ ما جاء عفو الخاطر من دون معاناة أو تكلّف.

عرضت الكتب التي تهتمّ بتاريخ الأدب العربي هذا الفن من الأدب الإنشائي عرضا موجزا، وأكتفت بتعريفه والإشارة إلى بعض نماذجه، وذِكر بعض كتّابه، وأغفلت الحديث عن نشأته وتطوّره وأنواعه وسبب ازدهاره، بل لا نكاد نجد نصّا صريحا في عدّ التوقيعات جنسا نثريا كبقية الأجناس الأدبية الأخرى، إلاّ إشارة مقتضبة من صاحب كتاب «البرهان» يدرج فيها التوقيعات، بعد أن أورد شيئا منها، ضمن تعداده لبعض الأجناس النثرية، حيث يقول: «وإن رمنا أن نأتي بكلّ ما سمعنا في هذا الباب من مختصر الوصايا، والأدب، وقصير التوقيعات، والخطب، طال علينا». يُعدّ كتاب «العقد الفريد»، لابن عبد ربّه الأندلسي، وكتابا «خاص الخاص»، و«يتيمة الدهر» للثعالبي أهمّ مصادر التوقيعات. ذهب بعض الباحثين إلى أنّ العرب نقلوا توقيعاتهم عن الفرس، وإذا كان الفرس قد اشتهروا بها، فإنّ التوقيعات عند العرب نشأت نشأة عربية خالصة، فالعرب عرفوا التوقيعات ومارسوها في أحسن صورها قبل أن يتصّلوا بالفرس، ذلك أن النظم الإدارية التي برزت في البيئة العربية الجديدة في ذلك العصر، تدفع إلى ظهور التوقيعات، فالرسائل والخطابات والمظالم تدعوا بالضرورة إلى الردّ عليها وتقرير ما يجب القيام في شأنها، ولا يوجد أحسن من رقعة الظلامة نفسها في توثيق ذلك وإثباته، مع طبيعة العربي ومقدرته الفطرية على الإيجاز وحسن السبك وقوّة الدلالة، ويشبه هذا ظهور المعاجم التي صحبت حركة التدوين والتأليف في القرون الأولى من الإسلام، فقد ثبت سبق الصينيين في هذا الفن للعرب بألف سنة على وجه التقريب، وصنّف الآشوريون معجماتهم على الرُّقُم خوفا عليها من الاندثار، وأودعوها مكتبتهم في نينوى خلال القرن السابع قبل الميلاد، إلاّ أن العِجامة العربية نشأت بمعزل عن ذلك.

من أوّل ما عُرف من التوقيعات ما جاء عن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في توقيعه على رسالة خالد بن الوليد. فقد كتب خالد رضى الله عنه إلى أبى بكر الصديق يستشيره في أمر الحرب وكيف تكون فكتب له أبو بكر: «احرص على الموت توهب لك الحياة»، وما كتبه عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه، إلى سعد بن أبي وقّاص، وهو قوله: «اِبنِ ما يستر من الشمس ويَكُنّ من المطر». ووقّع الحجاج بن يوسف، في كتاب قتيبة إليه أنّه على عبور النهر ومحاربة الترك: «لا تخاطر بالمسلمين حتى تَعرِفَ موضعَ قدمك، ومرمى سهمك». ووقّع هشام بن عبد الملك في رقعة محبوس لزمه الحدّ: «نَزَلَ بحدِّكَ الكتاب». ووقّع يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، إلى صاحب خراسان في المُسوِّدة: «نَجَمَ أمرٌ أنت عنه نائم، وما أراك منه أو مِنّي بسالم». وأوّل ما يصادفنا من توقيعات العصر العبّاسي، ما وقّع به أبو العبّاس في ظُلامة لجماعة من أهل الأنبار يذكرون أنّ منازلهم أُخذت وأُدخلت في البناء الذي أمر به، ولم يُعوَّضوا أثمانه، فوقّع أبو العبّاس: «هذا بناء أسّس على غير تقوى»، ووقّع المنصور على ظلامة رجل يشتكي فيها من أحد العمّال: «اكفني أمره، وإلاّ كفيته أمرك»، وكان توقيع الخليفة المهدي إلى صاحب أرمينيا: «خُذ العفو وأمر بالعرف وأعرض أن الجاهلين»، ووقّع الرشيد إلى صاحب خراسان: «داو جرحك لا يتّسع». وجاء توقيع لجعفر بن يحيى في رقعة رجل سأل ولاية: «لا أولي بعض الظالمين بعضا». ووقّع الفضل بن سهل إلى صاحب الشرطة: «تَرفَّق تُوفّق». من التوقيعات التي تندرج تحت الفكاهة والنادرة توقيع الخليفة المنصور يعقوب الموحدي (595– 1199م) حيث إنه بعث إلى بعض عمّاله لينظر له رجلا لتأديب أولاده، فبعث العامل له برجلين، وكتب معهما كتابا يقول فيه: قد بعثت إليك برجلين أحدهما بحر في علمه والآخر برّ في دينه، فلما امتحنهما الخليفة لم يرضياه، فوقّع على ظهر كتاب العامل: «ظهر الفساد في البر والبحر».

تعليق

سمي هذا الفن بالتوقيعات، نسبة إلى ما يوقعه الخليفة أو عمّاله على الرقاع التي ترد حاضرة الخلافة، بطلب أو شكوى أو مظلمة. وجاء في المعجم الوسيط: «وقَّع في الكتاب: أجمل بين تضاعيف سطوره مقاصد الحاجة وحذف الفضول، والتوقيع ما يعلقه الرئيس على كتاب أو طلب برأيه فيه». يقول ابن خلدون: «ومن خطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله، ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها، والفصل فيها، متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه، فإمّا أن تصدر كذلك وإمّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سجلّ يكون بيد صاحب القصة، ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه».

مترادف

تَوْقِيعات أَدَبِية

مراجع

  • مفهوم النثر الفنّي وأجناسه في النقد العربي القديم. مصطفى البشير قط. دار اليازوري العلمية، 2016م. عمّان الأردن.
  • أدب زهّاد التابعين (موضوعاته وفنونه) (سلسلة الرسائل والدراسات الجامعية). يونس هلال منديل صالح اللهيبي‎. دار الكتب العلمية، 2017م. بيروت، لبنان.
  • الإتيكيت والبروتوكول نظرة إسلامية معاصرة. الربيز: سعد سلمان المشهداني. العربي للنشر والتوزيع، 2022م. القاهرة، مصر.
  • aqlamalhind.com/?p=710#_ftnref5