معجم المصطلحات الكبير
دِين
الاجتماع

وَفْقا لإميل دوركهايم: «إنّ الدين هو نسق مُوحَّد من العقائد والممارسات ذات العلاقة بالأشياء المقدّسة التي تُوحِّد الناس الذين ينتمون إليها في جماعة». الدين موجود في شكل أو في آخر في جميع المجتمعات البشرية التي عرفها التاريخ. تُظهِر أقدم المجتمعات التي وقع تدوين تاريخها آثارا واضحة للرموز والاحتفالات الدينية. تشير رسوم الكهوف إلى وجود العقائد الدينية قبل أكثر من 40.000 سنة، وقد استمرّ الدين منذ ذلك الوقت في أن يكون جزءا مركزيا للتجربة البشرية. اِحْتوت أقدم الديانات الأوروبية على عقائد وممارسات كانت جزءا لا يتجزأ من داخل أعماق الناس، ومن ثمَّ فهي كانت مكوّنا لصميم الحياة اليومية بدلا من كونها مؤسّسات اجتماعية مميّزة. لا يزال هذا حقيقيا اليوم في أجزاء أخرى من العالم. لكن في المجتمعات الصناعية الحديثة، أصبحت الديانات موجودة في تنظيمات منفصلة عن مجالات أخرى للحياة مثل الاقتصاد والسياسة. كان الجدل الرئيس داخل علم اجتماع الدين في القرن العشرين حول نظرية العلمنة secularisation حيث اعتبر بعضهم أن الدين يفقد تأثيره ببطء، بينما رأى آخرون أنّ العقائد الدينية هي في تصاعد على الرغم من أن العضوية الرسمية في التنظيمات الدينية قد تكون في تراجع.

رأى ماركس الدين ملاذا للجماهير من الواقع القاسي للحياة في مجتمعات منقسمة إلى طبقات. ويعود هذا إلى أن الدين يَعِد بالسعادة والمكافآت بعد الحياة، لكن يعلّم الناس القبول المستسلم للاستغلال في العالم الحقيقي. إذا، ترى النظرية الماركسية في الدين عنصرا ذهنيائيا (أيديولوجيا) قويا يعطي أصناف اللامساواة الفاحشة في الثروة والسلطة\القوّة مشروعية. لقد توصّلت الدراسات الوافية لماكس فيبر لديانات العالم إلى خلاصة مختلفة. فوجد أن الدين ربّما يكون قوة محافظة لكن هذا ليس على الإطلاق أمرا حتميا. فعلى سبيل المثل، أعاق الدين التغيير الاجتماعي في الهند لمدة طويلة جدّا، حين ركّز الدين الهندوسي على الهرب من معالم الكدح للعالم المادي عوضا عن التحكّم فيه أو تشكيله. لكن في الغرب، فالمسيحية، مع معاركها المستمرّة ضدّ الخطيئة والخطّائين، خلقت توترا وحركية عاطفية تحدّيا النظام القائم. وبالمثل، أَّدّت الكنيسة الكاثوليكية دورا مهمّا في إعطاء شرعية لحركة تضامن البولندية التي أسقطت النظام الشيوعي في الثمانينيات من القرن الماضي. ومن ثمّ، تستطيع الأديان الحثّ على التغيير الاجتماعي.

رأى دوركهايم استمرار الدين معلما رئيسا له. فجادل في أنّ جميع الأديان تقسّم العالم إلى مجالات مقدّسة ومدنّسة (دنيوية). تعامل الأشياء والرموز المقدّسة بطريقة مختلفة جدّا عن باقي الملامح اليومية للوجود والمتمثّلة في الأشياء «الدنيوية». يرجع السبب في تواصل الأديان لفترات طويلة جدّا إلى أنّها السبيل الرئيس لنشأة الروابط الاجتماعية ومنحها القوّة، فالاحتفال والشعيرة عاملان أساسيان في ربط الناس بعضهم ببعض، الأمر الذي يفسّر سبب وجودهما في الأزمات والتحولات المتنوّعة للحياة مثل الولادة والزواج والموت. تؤكّد الاحتفالات الجماعية تضامن الجماعة في أوقات عندما يجبر فيها الناس على التكيّف مع تغيير كبير. تحدث الفرص الاحتفالية «انفعالا جماعيا» يتمثّل في مشاعر أكثر حدّة وطاقة ناشئة من تجمعات جماعية تأخذ الناس بعيدا من همومهم الدنيوية وترفعهم موقتا نحو حالة تسامٍ عالية. يبيّن دوركهايم أن تجربة الناس الدينية لا يمكن رفضها على أنّها مجرّد وهم شخصي أو ذِهنياء (أيديولوجيا). إنّها في الواقع تجربة حقيقية لقُوى اجتماعية حقيقية.

تهتّم الدِّينياء (علم اجتماع الدين) بمعرفة كيف تعمل المؤسّسات والتنظيمات الدينية، خصوصا بالنسبة إلى خلق التضامن الاجتماعي. حيثما تكون هناك أديان كثيرة متنافسة، فإنّ الفروق بينها قد تتحوّل إلى نزاعات تؤدّي إلى عدم الاستقرار. هناك أمثلة كثيرة لهذا في نزاعات بين البروتستانتيين والكاثوليكيين في إيرلندا الشمالية وبين السيخ والهندوس والمسلمين في الهند وفي المصادمات بين المسلمين والمسيحيين في البوسنة وفي يوغسلافيا السابقة وفي «جرائم الكراهية» ضدّ اليهود والمسلمين والأقلّيات الدينية في الولايات المتحدّة الأميركية.

إن العلمنة مفهوم يصف العملية التي يخسر بها الدين تأثيره في المجالات المتنوّعة للحياة الاجتماعية. فعندما نعيش في مجتمع علماني تماما، يكون مفهوم الدين أمرا لا حاجة إليه. ففي أوروبا الغربية، يوصف نمط التديّن بأنّه «نمط اعتقاد من دون انتماء»، إذ تُظهِر المسوحات أنّ غالبية الناس تعتقد بإله أو آلهة، لكن الحضور في الكنيسة هو في تراجع مطّرد. على الرغم من ذلك، إلّا أنّ الاعتقاد الديني والحضور في الكنيسة يبقيان مرتفعين في الولايات المتّحدة الأميركية. وتتضاعف مشكلة الوصول إلى خلاصة عامّة حول الموضوع بسبب الاختلاف حول كيف ينبغي أو يمكن أن تقاس العلمنة.

لكثير من الناس عقائدهم الدينية، لكنّهم لا يمارسون شعائرهم الدينية. في المقابل فإنّ آخرين كثرا يحضرون بانتظام في الكنيسة نتيجة للعادة أو لمقابلة الأصدقاء، بينما لا تكون عقائدهم الدينية الشخصية قويّة كثيرا. فتبنّي مقاربة تاريخية لا يحسم الأمر. لعلّ الناس تعتقد أنّه، قبل التصنيع، كانت نسبة الحضور في الكنسية أعلى. وأنّه كان للكهنة مكانة اجتماعية سامية وكان جمهور الناس يحمل عقائد دينية قويّة، لكنّ جميع هذه الافتراضات وقع تحدّيها من طرف البحوث التاريخية. ففي أوروبا القرون الوسطى كان معظم الناس، في أحسن الأحوال، فاترين في معتقداتهم وكانوا يحضرون النشاطات الكنسية لشعور بالواجب وليس بسبب الالتزام الديني. ومن جهة أخرى فلمعظم الناس اليوم إحساس ضعيف في أنّ الحياة اليومية مسكونة بكيانات إلهية أو روحية. يجادل منتقدو مقولة دوركهايم في أنّه ليس ممكنا فهم السمة الأساسية لجميع الأديان، انطلاقا من تعميم من مجتمعات صغيرة قليلة. فخلال القرن العشرين أصبحت مجتمعات كثيرة في العالم أكثر تنوّعا ثقافيا بوجود سلسلة متنوّعة من الأديان داخل المجتمعات القومية. فمقولة دوركهايم للدين باعتباره مصدرا للتضامن الاجتماعي قد تكون أقلّ إقناعا في مجتمعات متعّدّدة الأديان وهي لا تأخذ في الاعتبار بطريقة سليمة النزاعات داخل المجتمع حول اعتقادات دينية مختلفة. ربما يمكن أيضا نقد فكرة دوركهايم القائلة إنّ الدين هو عبادة للمجتمع وليس عبادة آلهة أو أرواح. يمكن النظر إلى هذا على أنّها حجة اختزالية، أي إنّه يمكن اختزال التجربة الدينية إلى ظواهر اجتماعية، ومن ثمّ، رفض حتى إمكان وجود مستوى «روحي» للواقع.

لمّا تفقد الأديان التقليدية سلطتها، فإنّ التديّن يبدو أنّه يحوّل إلى اتجاهات جديدة في حركات دينية جديدة متنوّعة. كما أنّ هناك أيضا حضور قليل للعلمنة في كثير من بلدان العالم النامي. ففي أجزاء كثيرة في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا والهند توجد أصولية إسلامية مفعمة بالحيوية ومليئة بالقوّة والنشاط. وبالمثل، يحضر بُلوف (ملايين) الكاثوليكيين زيارات البابا البلدان النامية، بينما وقع اعتناق الدين الشرقي الأرثوذوكسي بحماسة في أجزاء من الاتحاد السوفياتي السابق بعد عقود من الاضطهاد تحت الحكم الشيوعي. وحتى في الولايات المتّحدة الأميركية، فالدين يمارس سيطرة قويّة وهو اتخذ أشكالا جديدة مثل الحركة الإنجيلية الشعبية و«التبشير التلفزيوني» televangelism. نظّر ميشال مافيزولي M. Maffesoli إلى أنّنا نعيش الآن في «زمن القبائل» كما يظهر النمو السريع لجماعات صغيرة من الناس التي يرتبط بعضها ببعض، استنادا إلى أذواق موسيقية وأفكار واختيارات استهلاكية ووسائل ترفيهية مشتركة. فالتزامهم إزاء تلك «القبائل الجديدة» قد يكون ضعيفا جدّا وقصير العمر، لكن تُظهر هذه القبائل الجديدة حاجة إنسانية قويّة للاجتماعية sociability التي لا تزال تمثّل، في تعبير دوركهايم، حاجة دينية. وبينما تناضل الأديان التقليدية للمحافظة على عضوية الناس فيها، يجادل بعض علماء الاجتماع في أن الأفكار «العلمانية» تستطيع أن تتبنّى دورا «دينيّا». وكمثل على هذا هو التركيز العلماني على حقوق الإنسان. إنّه تركيز يربط بين الخصوصي والعمومي الكوني ويتطلّع إلى الديمقراطية في المستقبل. لهذا الخطاب، تشابهات مع التراث المسيحي وقد ينظر إليه ممثلا نوعا من «الدين العلماني». مع ذلك، إذا كان هذا صحيحا، إلّا أنّ هذا التوجّه يعتبر الفرد مركزيا وليس الجماعة أو المجتمع.

يمثّل تفسير كارلو بارون C. Barone لحركة سوكا غاكاي في إيطاليا دراسة مهمّة لإحدى الحركات الدينية الجديدة. بدأت هذه الحركة منذ أكثر من خمس وسبعين سنة، لكنّها كانت حركة دينية سريعة النمو وناجحة، لا سيما في إيطاليا. يناقش المؤلّف لماذا كان ينبغي عليها أن تكون ناجحة كثيرا. ينتمي إلى سوكا غاكاي زُهاء 8 بلوف عضو في اليابان، وهي مرتبطة بقوة بحزب سياسي (كوميتو Komeito) الذي أدّى دورا مهمّا في التحالفات اليابانية الحاكمة منذ التسعينيات من القرن العشرين. مع ذلك، فكثير، وربّما معظم، الأعضاء غير اليابانيين من المحتمل أن يكونوا غير واعين لهذا الرباط السياسي، معتبرين أنّ دينهم هو أمر شخصي وفردي. يبدو أن السبب الرئيس لنجاح سوكا غاكاي يتمثل في طرائقها التنظيمية. يلتحق أعضاء بمجموعة صغيرة (هي جزء من شبكة) ويشَّجعون على الاشتراك في التجارب، الأمر الذي ينشئ معنى قويّا للتضامن. بينما يتركّز انتباه المجموعة على الأشياء المقدّسة في بيئة مشحونة عاطفيا. باختصار، تحدث المجموعات انفعالا جماعيا (دوركهايميا) يعمل على دمج الأعضاء بسرعة وأمان نسبيين. (مفاهيم أساسية في علم الاجتماع. أنتوني غيدنز، فيليب صاتن).

لغة كلزية

religion
لغة فرنسية

religion
مراجع

  • مفاهيم أساسية في علم الاجتماع. أنتوني غيدنز، فيليب صاتن. ترجمة: محمود الذوّادي. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2018م. الظعاين، قطر.