تطوّرت التُّراخِية الجديدة في الولايات المتّحدة، في ثمانينيات القرن العشرين. أفضل تعريف لها قدّمه ستيفن غرينبلات Stephen Greenblatt، في سنة 1982م. وقد انتشر في عدّة مجالات دراسية بما فيها الدراسات الكتابية. تشير كاثرين غالافر Catherine Gallapher أنّ كلّ مؤيِّدي النظرية ومعارضيها سيتّفقون على الأرجح على أنّ التراخية الجديدة ترى النصوص الأدبية وغير الأدبية باعتبارها مكوّنات للأحاديث التاريخية في داخل النصوص وخارجها، وأنّ من يمارسونها عادة لا يضعون بناءً هرميا محدّدا للأسباب والنتائج، بينما يتتبّعون الروابط بين النصوص والأحاديث والقوّة والقوانين الذاتية. أنواع النقد التاريخي التي رفضت مؤخّرا المقاربات النقدية «اللاتاريخية» التي تطوّرت مع النقد الجديد قد تأثّرت بقوّة بالنقد الماركسي والتفكيكية ونقد ما بعد الحداثة. هذه المقاربات التاريخية تميّز بين التاريخ (الماضي) وعلم التأريخ (الكتابة الماضية)، وترفض اِدّعاء المؤرّخين القدامى بأنّ في مقدورهم أن يعيدوا تجميع الماضي بموضوعية من خلال قراءة الأعمال الأدبية للماضي. بينما لا يمكن تصنيف التراخية الجديدة كمقاربة نقدية واحدة موّحدة (يشير بعض النقّاد إلى أعمالهم كقواعد اجتماعية، وآخرون كدراسات ثقافية، وآخرون كنقد ثقافي)، فإنّ النقّاد الذين يمارسونها يتشاركون بعض الاهتمامات المشتركة، بما في ذلك ذاتية التاريخ، وحالة الناقد المؤرّخ المتأثّرة ذِهْنِيائيا (أيديولوجيا) في الكتابة والقراءة، والعلاقة بين علم التأريخ والتأليف، والعلاقة بين الحديث والذهنياء والتناص مع الماضي.
أوّلا : وفقا للمؤرّخين الجدد، كلّ تاريخ له طبع شخصي. هؤلاء الذين يهيمنون على ثقافة ما يميلون إلى كتابتها، ويخمدون أصوات الأقلّية، ويتركون سجلاّ متحيّزا للأحداث، وبالتالي فإنّ التراخية الجديدة تفترض «تاريخية» النصوص و«تناصّ التاريخ». المقصود بالتاريخية أنّ كلّ النصوص إمّا مكتوبة، وإمّا مقروءة داخل سياقات محدّدة ذهنيائيا وتاريخيا. أمّا تناصّ التاريخ فيعني أنّ المدخل الوحيد للقرّاء أو المؤرّخين إلى الماضي هو من خلال النصوص، والتي هي ذاتها خاضعة لتأثير السياق الذهنيائي. وبالتالي لا يوجد مدخل مباشر للماضي إلاّ المدخل من خلال النصوص.
ثانيا : يرى المؤرّخون الجدد رابطا مباشرا بين النصّ وسياقه الاجتماعي التاريخي. النصّ من أي نوع هو نتاج مسبّبات اجتماعية، وكذلك فهو مسبّب لآثار اجتماعية. التواريخ ليست إعادة تركيبات موضوعية للماضي، ولكنّها بِنى نصّية لنقّاد ومؤرّخين داخل حدود صياغات تاريخية وأدبية محدّدة، وبالتالي النصوص الأدبية لا تتجاوز سياقاتها التاريخية والاجتماعية لتستمدّ من عالم متسامٍ حقيقة في شكل محاكاة ومعرفة. هؤلاء النقّاد على دراية بأنّنا لا نستطيع دراسة الماضي إلاّ من خلال عدسات الحاضر. فلا المؤرّخون أو النقّاد الأدبيون يحتلّون موقعا موضوعيا ومتجاوزا يدرسون من خلاله الماضي. فهم لن يجدوا أية مصادر محايدة غير تاريخية لتدعّم افتراضاتهم. وليس بوسعهم أن يكتشفوا إشارات محايدة، بل فقط أفكارهم الخاصّة التي شكّلوها من التاريخ، والتي لا يوجد لها جوهر إلّا التاريخ. المؤرّخون، الأدباء، النقّاد، القرّاء، جميعهم مشتركون في عملية الكتابة والقراءة. ولأنّ النصوص مكتوبة وتفسّر داخل صياغات أدبية وتاريخية وسياسية واجتماعية، فإنّ التواريخ وتفسيرات النصوص هي أكثر ما تكون بِنًى لأشخاص... أكثر من كونها أشياء من الماضي يتمّ دراستها. هذه المعضلة تعقّدها حقيقة أنّه طالما أن السياقات الأصلية للأحداث الماضية والنصوص لا يمكن إعادة تجميعها بالكامل، فإنّ المؤرّخين والنقّاد لا بدّ أن يصيغوا سياقات تفسيرات.
ثالثا : أصحاب التراخية الجديدة يميلون إلى عدم رسم خطّ واضح بين عملية كتابة التاريخ والتأليف، وينظرون إلى كتابة التاريخ كترتيب سردي لأحداث الماضي. ولأنّ المؤرّخين لا بدّ أن يوفّروا سياقات معظم أحداث الماضي وكذلك يضمّون أحداثا منتقاة بينما يستبعدون أحداثا أخرى. فإنّ أي رواية عن الماضي هي محرّفة دائما. سياق النصّ نفسه هو صياغة المؤرّخ أو الناقد، بكلمات أخرى. المؤرّخ أو الناقد يبني سياقا ثمّ يفترض أنّه تحريف لظروف تأليف النصّ، وبالتالي من هذا المنظور، مجتمع السياق (المجتمع المتاوي، مجتمع الأسينيين، المجتمع اليوحنّاوي، مجتمع الكهنة) الذي يوظّفه الدارسون ليقولوا شيئا له معنى عن النصوص الكتابية هو ابتكار يتمّ تأليفه من الدارسين أنفسهم. يخفق المؤرّخون والنقّاد والقارئون من كلّ نوع في التفرقة بين الحدث في الماضي وتصوّراتهم عن الماضي، بكلمات أخرى، توجد فكرة مغلوطة أساسية عن التركيبات والتفكيكات. أصحاب التراخية الجدد مع إدراكهم لقصورهم العِلْميائي (الابستمولوجي) الأساسي ينادون بأنّ الأعمال الأدبية للمؤرّخين هي عمل تأليفي بقدر النصوص التي تعترف بأنّها كذلك.
رابعا : الاهتمام الرابع للتراخية الجديدة يتمثّل في العلاقة بين الخطاب discourse والذهنياء. الأحاديث التاريخية والنقدية مترسّخة بشكل واضح في الذهنياءات، فالروايات عن الماضي، بدلا من أن تكون موضوعية، وتعكس طبيعة الأشياء، فهي تعكس منظورا ذهنيائيا محدّدا في الحاضر. بكلمات أخرى، هي محاولات لشرعنة الحاضر أو على الأقلّ جانب منه. الحديث هو ما تحدّده المؤسّسة كحقّ، وهذا التحديد هو مجموعة متّفق عليها من الممارسات التي تتجاوز الشكّ أو الفحص الدقيق وتحدّد المعرفة التي يقدّمها المؤرّخ أو الناقد. ولأنّ المؤرّخين والنقّاد يعيشون داخل ذهنياءات (اجتماعية، اقتصادية، سياسية، لاهوتية) فإنّ التحليلات النقدية والتاريخية للماضي أو للنصوص ليست موضوعية تماما. مثل هذا الافتراض يقاوم احتمالية وجود روايات تاريخية موضوعية، ويُدخل قضية الممارسة الأخلاقية في كتابة التاريخ والنقد التاريخي.
تُظهر كلّ من النصوص التاريخية والأدبية قواعد للسلوك والإتيكيت والقوانين وتفرضها. النصوص الأدبية ومفسّروها لا يتجاوزن اللحظة التاريخية، ولكنّهم حتما جزء من أساس ذهنيائي معقّد، وما افترضه مؤرّخون ونقّاد الماضي على أنّه عموميات (مثل: والعرق، والجنس) هو في الواقع صياغات اجتماعية وتاريخية، وبعبارة أخرى، كلّ من النصوص التاريخية والأدبية متورّطة في جلائح (أجندات) ذهنيائية، وبالتالي من الواضح أن التراخية الجديدة هي تفكيكية من حيث إنّها فعّالة جدّا في تحدّ مزاعم جماعة التأسيسيين foundationalists والماهويّين essentialists وتفكيك الذهنياءات، وإظهار أنّ كلّ شيء تقريبا يعتبره البشر أنّه من العموميات، أو طبيعي أو لا يتعلّق بالزمن هو في الواقع مشروط تاريخيا ومرّكب اجتماعيا.
يعتقد أصحاب التراخية الجديدة أنّ هناك احتياجا لمقاربة جديدة تركّز على ذاتية التاريخ وعلى الأصوات المهمّشة التي تُركت بسبب الآراء الدينية المثالية لكتّاب السِّفْريل (الكتاب المقدّس)، على سبيل المثال، الدارسون لرسائل «بولس» صاغوا أفكارا عن شكل المجتمعات التي استقبلت هذه الرسائل (مثل: أهل كورنثوس، وأفسس، إلخ)، ويعتقد أصحاب التراخية الجديدة أنّه من المستحيل أن نعرف شكل الثقافات لأنّها تقدّم لنا فقط من خلال تاريخ ونصّ غير مباشر. كما يعتقدون أنّ الروايات من التاريخ القديم لشعب بني إسرائيل قد كتمت أصوات ثقافات أخرى، ربّما كانت أكثر هيمنة في الواقع، مثل: الثقافة الفلسطينية. في النهاية كثير من النقّاد الجدد يريدون النصوص التي كانت مخفية ثمّ اُكتشفت (مثل اكتشافات نجع حمّادي) أن تقنّن، وهو هدف سيلقى مقاومة جادّة من مسيحيين كثيرين. (التفسير الكتابي، دبليو. راندولف تاتي).