معجم المصطلحات الكبير
وِراقة
الزِفارة

حرفة نسخ الكتب وغيرها بالكتابة اليدوية.

تعليق

يعرّفها ابن خلدون في مقدّمته بقوله : معاناة الانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين، واختُصّت بالأمصار العظيمة العمران. وفي العصور المتأخّرة من التاريخ الإسلامي غلب على الورّاقين المشتغلين بتجارة الكتب اسم « الكُتُبِي » وأصبح يُقال لهم الكتبيون.

اتّخذ الرسول صلّى الله عليه وسلّم كتبة للوحي، فكانوا يكتبون على الرقاع وكرانف جريد النخل واللِّخاف (الحجارة البيض الرقاق)، وكان بعض الصحابة يكتبون أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنفسهم، وفي عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه جُمع القرآن وهو على صورته الأولى، فنُسخ في الرقوق وحُفظ عند أبي بكر، ثمّ عند عمر، ثمّ عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، ثمّ اُستخرج في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، وقام بنسخه عدة نسخ، فهؤلاء الذين كتبوا هذه النسخ كانوا الورّاقين الأوائل إلاّ أنّ نسخهم كان بلا أجر على الظنّ الغالب، وقد اتّخذ بنو أُميّة فيما بعد نُسّاخا أُجراء منهم خالد بن الهيّاج الذي كان ينسخ في بلاط الوليد بن عبد الملك، واشتغل أُناس بالوراقة مقابل أُجرة منهم مالك بن دينار الذي كان ينسخ المصاحف، وظهر خطّاط مجيد هو قطبة، ويُمثّل هذا العصر بداية حرفة الوراقة، وفي عهد العبّاسيين ازدهرت هذه الحرفة ازدهارا عظيما مع ازدهار حركة التأليف والترجمة، وذلك حين دخلت صناعة الورق إلى العالم الإسلامي في النصف الأوّل من القرن الثاني، وكثر الورق وفشا ورخص ثمنه لأنّ قبل هذا العصر كان يُصنع في مصر من نبات البردي بكمّيات محدودة تبعا لمحدودية النبات نفسه، فلفظ الوراقة مشتق من الورق. وقد كثرت هذه الحرفة حتّى صارت لها سوق تُسمّى بسوق الورّاقين، وروى اليعقوبي الذي تُوفّي سنة 278 أنّه كان في عصره أكثر من مئة ورّاق في بغداد، وانتشرت أسواقها في كلّ مدينة هامّة من مدن العالم الإسلامي، وكانت هذه الأسواق تحتوي على دكاكين الورّاقين وتُباع فيها الكتب والورق وقد تُقام فيها المزادات العلنية، وضمّت العلماء وطالبي العلم من الذين يبغون الشراء أو لا يبغونه، ففي فسطاط مصر كان في عهد الطولونيين والإخشيديين سوق عظيمة للورّاقين تُعرض فيها الكتب للبيع، وأحيانا تدور في دكاكينها المناظرات، وفي القاهرة بُنيت سوق للكتبيين حوالي سنة 700 كانت مجمعا للعلماء أمثال الرياشي وأبي بكر بن دريد اللغويين النحويين، وفي قرطبة كان الورّاقون من الكثرة بحيث نجد في كتاب « تاريخ علماء الأندلس » لابن الغرضي تراجم لأحد عشر ورّاقا قرطبيا اشتهر كلّ واحد منهم بعلم.

كانت الوراقة مهنة سامية يحترفها أدباء وعلماء ومحدّثون وفلاسفة، وأصحابها ذوو منزلة عالية في المجتمع الثقافي عند المسلمين الأوائل، ومن هؤلاء الورّاقين أبي بكر الدقّاق المعروف بابن الخاضبة الفقيه الأديب المتوفى سنة 489، والعالم الإمام الورع أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد عمل حينا بالوراقة وحينا آخر بأعمال أُخرى يطلب بها الرزق الحلال، والقاضي أبو سعيد السيرافي (توفي سنة 368) إمام أهل النحو في عصره، كان يعمل بالوراقة في حداثته، ومحمّد بن إسحاق النديم (توفي سنة 385) مؤلّف « الفهرست » الذي يُعتبر من أهمّ الكتب التي أُعتمد عليها في الثقافة الإسلامية في جميع العصور، ومنهم محمّد بن يوسف الورّاق الأندلسي (توفي سنة 362) ويحيى بن عديّ (توفي سنة 364) رئيس علم المنطق في عصره كان يعمل بالوراقة بنشاط بالغ لقلّة ذات يده، وأبو حيّان التوحيدي (توفي سنة 400) الأديب الفيلسوف، وقد عمل بهذه المهنة على مضض لأنّه كان يطمع طول حياته بالجاه لكنّه قضى عمره بائسا كاسف البال، ومن هؤلاء أيضا أحمد بن عبد الدائم المقدسي (توفي سنة 668) أحد المحدّثين الفقهاء الحنبليين، فقد بصره في نهاية حياته وقد لزم هذه الحرفة مدّة خمسين سنة، وكان ينسخ بسرعة كبيرة فأنتج من ذلك الشيء الكثير، وابن القوطية العالم اللغوي والمؤرّخ الفيلسوف، وأبو مروان المؤرّخ الأندلسي صاحب كتاب « المقياس »، وياقوت الحموي المؤرّخ الأديب الإراضي صاحب المعجمين، وغيرهم كثير كثرة الكتب التي نُسخت في التاريخ الإسلامي.

كان عمل الورّاقين يتلخّص أساسا في الحصول على الورق بأرخص الأثمان ثمّ إجادة خطّ الكتاب وتزويقه بعد أن يختاروا الكتب في أوّل صدورها أو أجودها وأنفقها في الأسواق، وقد ينقلون الكتب النادرة من بلد إلى آخر بقصد استجلاب المنفعة الزائدة، كما لا يكتفي الورّاقون بنسخ الكتب فحسب، بل كانوا يُصحّحون النقول ويضبطونها ويذكرون ممّن نقلوا بسرد إسناد يتّصل بمؤلّف الكتاب، وبلغ من حرصهم على تصحيح الكتب أنّ العالم إذا ألّف كتابا كان يطلب من قرّائه الورّاقين تصحيح كتابه من دون أخذ أذنه.

الورّاقون على ثلاثة أصناف، منهم من افتتحوا دكاكين لهم لمّا كثر الورق وفشا الكتاب، ومنهم من ينسخ بالأجرة لمن يدفع له حسب كمية المنسوخ، وصنف آخر يعمل عند الأغنياء والحكّام ينسخ لهم مقابل أجر راتب، أو كأن يكون عبدا مملوكا لا يحصل على أجر. ثمّ جاء عصر تدهورت فيه هذه المهنة وتأخّرت بتأخر الحضارة نفسها، وأوّل إشارة نجدها لهذا التدهور عند ابن خلدون حين قال : ولقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب وأهله، وصارت الأمّهات والدواوين تُنسخ بالخطوط اليدوية ينسخها طلبة البربر، صحائف مستعجمة برداءة الخطّ وكثرة الفساد والتصحيف، فتُستغلق على متصفّحها ولا يحصل منها فائدة إلاّ في الأقل النادر. ثمّ ما لبث أن خيّم الركود الثقافي على كثير من البلاد الإسلامية فيما بعد، وبقيت البلاد العثمانية وحدها مركزا للثقافة الإسلامية، وقد خُطّت فيها الكثير من الكتب النفيسة، ثمّ دخلت الطباعة إلى العالم الإسلامي سنة 1129 عندما أفتى شيخ الإسلام عبد الله أفندي بجواز الطباعة في خطاب موجّه إلى سعيد محمّد جلبي وإبراهيم آغا المجري اللذيْن أنشآ مطبعة في القسطنطينية بدأت تعمل سنة 1141، ولكن الوراقة لم تنقطع تماما بدخول الطباعة، فكان طالبوا العلم ينسخون الكتب لأنفسهم.

مترادف

نِساخة

[الوِراقة أخصّ من النساخة، فالورّاق هو الذي يشتري دكّانا في سوق الورّاقين أو يكتريه ويلزم هذه المهنة مدّة حتى يُعرف بها، أمّا النِساخة فهي كلمة عامّة تُطلق على كلّ من يقوم باستنساخ الكتب كأن يكون عبدا أو أجيرا أو متبطّلا يقوم بنسخ الكتب لسدّ بعض حاجاته المؤقّتة، لذلك يحبّذ وضع فهارس للورّاقين لأهمّيتها في الزفارة].

مراجع

  • الوراقة والورّاقون في التاريخ الإسلامي، لطف الله قاري. الطبعة الثانية، 1403. منشورات دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع، المملكة العربية السعودية.
  • معجم الكتابة، خضير شعبان. الطبعة الأولى، 1419. دار اللسان العربي، الجزائر.