يقصد بتقسيم العمل الفصل المنهجي للمهامّ والوظائف داخل عملية الإنتاج، بما يُنتج نمطا من الاعتماد الاقتصادي المتبادل واسع النطاق بين الأفراد والجماعات. يُعدّ هذا المفهوم من الركائز الأساسية في تحليل البِنْية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الحديثة. من أقدم المعالجات المنهجية لتقسيم العمل نجد تحليل آدم سميث في كتابه: ثروة الأمم the wealth of nations, 1776، حيث قدّم وصفا شهيرا لخطّ إنتاج الإبر. أشار سميث إلى أنّ العامل الواحد، إذا عمل بمفرده، قد لا ينتج أكثر من عشرين إبرة في اليوم، لكن عندما يُقسَّم العمل إلى عدد كبير من المهام البسيطة، فإنّ مجموعة العمّال يمكنها إنتاج ما يصل إلى 48.000 إبرة يوميا. وهذا يُعدّ مثالا تقليديا على الكفاءة الإنتاجية التي يتيحها التقسيم المنظّم للعمل.
لاحقا، وسّع إميل دوركهايم Émile Durkheim المفهوم ليشمل أثره الاجتماعي، مستندا في بعض جوانبه إلى أعمال أوغست كونت Auguste Comte رأى دوركهايم أنّ تقسيم العمل الصناعي أدّى إلى تحوّلات عميقة في طبيعة التضامن الاجتماعي. ففي المجتمعات التقليدية، كان التضامن بين الأفراد ينبع من التشابه في نمط العيش والوظائف والأدوار، وهو ما أسماه التضامن القِينِيائي mechanical solidarity أمّا في المجتمعات الحديثة، فمع توسّع تقسيم العمل وتعقّد المهام، نشأ ما أطلق عليه التضامن العضوي organic solidarity، وهو تضامن يقوم على الاختلاف والتكامل بين الأدوار، وليس على التشابه. يُعتبر هذا التحوّل بالنسبة إلى دوركهايم تغيّرا بِنْيويا في المجتمع، وليس مجرّد ظاهرة اقتصادية. فبقدر ما تتخصّص الوظائف، تزداد درجة الترابط والتعاضد، إذ يصبح الأفراد أكثر اعتمادا على بعضهم البعض لتلبية احتياجاتهم، في مقابل نمط الاكتفاء الذاتي الذي كان سائدا في المجتمعات ما قبل الصناعية.
في المجتمعات التقليدية، كان العمل خارج الزراعة يقتصر غالبا على الحِرَف، حيث يتعلّم الأفراد مهارة أو حِرْفَة يدوية عبر تدريب طويل، وينفّذون عملية الإنتاج كاملة من بدايتها إلى نهايتها. أمّا مع الثورة الصناعية، فقد أدّى استعمال الآلات وتقسيم العمل إلى تراجع تدريجي للحرف التقليدية، واستُبدلت بنماذج إنتاجية تعتمد على الاختصاص في جزئية صغيرة من العملية الإنتاجية، ما سمح بتقليص مدّة التدريب وزيادة الكفاءة. أنتج هذا التحوّل آلاف الوظائف المتخصّصة، مقارنةً بعشرات الحِرَف فقط التي كانت موجودة في المجتمعات التقليدية. لم يخلُ هذا التطوّر من إشكالات؛ فقد أشار دوركهايم إلى أنّ تقسيم العمل قد يؤدّي إلى مشكلات اجتماعية خطيرة، كالصراع الطبقي بين العمّال والمالكين. إلّا أنّه رأى في المقابل أنّ له فوائد بعيدة المدى، أهمّها إعادة تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتوفير توازن بين الاختلاف الفردي والهدف الجماعي.
مع صعود الرأسمالية والتصنيع والتوسّع الحضري، تآكلت الحياة التقليدية ومعها التضامن القينيائي. وقد خشي العديد من المراقبين من أن يؤدّي هذا إلى أزمة في التماسك الاجتماعي وارتفاع مستويات الفردانية إلى درجة تهدّد البِنْية الاجتماعية. غير أنّ دوركهايم لم يشاركهم هذا التشاؤم، بل رأى في التضامن العضوي نمطا بديلا يحقّق ترابطا أعمق عبر الاتكال المتبادل في مجتمع تعدّدت فيه الوظائف وتباينت المهام. في المجتمعات الحديثة، نادرا ما يُنتج الفرد ما يستهلكه بنفسه. نحن نعتمد على سلاسل إنتاج عالمية لتوفير الغذاء والمأوى والسلع والخدمات. ومن هنا، يُعدّ تقسيم العمل أحد العوامل الرئيسية التي تدفع نحو ترابط عالمي متزايد. وقد ذهب دوركهايم إلى أنّ هذا النمط من الاعتماد المتبادل يسهم في تعزيز السلام والتعاون العالميين. ومع ذلك، أشار العديد من النقّاد إلى الآثار السلبية المترتّبة على ذلك، لاسيما ما يتعلّق بالرَّهامة de-skilling أي نزع المهارات عن العمال وتدهور ظروف العمل. فقد أدّت مبادئ الإسارة العلمية scientific management إلى ظهور ما يُعرف بالأنظمة ضعيفة الائتمان low-trust systems، حيث تُصمّم المهامّ بشكل صارم ومركزي لتتناسب مع متطلّبات تشغيل الآلات، ممّا يقلّص هامش الاستقلالية لدى العمال، ويخضعهم لمراقبة مكثّفة. ويُتّهم هذا النمط بتقويض دافعية العمّال وزيادة الاغتراب الوظيفي alienation ونسب الغياب والتسرّب من العمل، وهي مشاكل لازمت الطبقة العاملة على مدار القرن العشرين، وما تزال مستمرّة في أجزاء من العالم النامي اليوم.
منذ سبعينيات القرن العشرين، برز تحوّل تدريجي في النماذج الإنتاجية من نموذج فورد fordismالذي يعتمد على الإنتاج الضخم الموحّد، إلى ما يُعرف بمرحلة ما بعد الفوردية post-fordism، التي تتّسم بمَرانة أكبر في الإنتاج، وبتوجّه نحو تلبية الأسواق المتخصّصة. شملت هذه المرحلة ممارسات جديدة في تصميم المنتجات، وصِنْعِياء الإنتاج، وأساليب الإسارة، وأشكال مشاركة العمّال، وأساليب التسويق. مثلا، ظهرت أنماط العمل الجماعي، وفرق حلّ المشكلات، والتسويق الموجّه، كمكوّنات أساسية ضمن هذا التحوّل. أثّرت هذه التحوّلات في بِنْية العمل على المستوى العالمي، حيث برز اتّجاه متسارع نحو الاستعانة بالخارج outsourcing في عدد من المهام، لا سيّما في قطاعات الإسارة والخدمات. يرى آلان بليندر Alan Blinder أنّ هذا الاتّجاه قد تكون له عواقب ثورية على اقتصادات الدول الصناعية. فالكثير من المهامّ التي كانت تُعتبر في السابق آمنة ومُجزية –كالتعليم الجامعي، والخدمات المصرفية، ودعم العملاء– بات من الممكن تنفيذها من أي مكان في العالم عبر الإشباكة، ما يُهدّد وظائف الطبقة الوسطى وأصحاب المهن المتخصّصة.
من جهة أخرى، أظهرت دراسات، مثل دراسة جاين ويلز وآخرين عن مدينة لندن، أنّ المدن الكبرى أصبحت تعتمد على العمالة المهاجرة من الدول النامية لأداء المهامّ المنخفضة المكانة مثل التنظيف، والرعاية، وتقديم الطعام، والعمل في الحانات. وعلى الرغم من أنّ الهجرة بحثا عن العمل ليست ظاهرة جديدة، إلّا أنّ السياسات النيوليبرالية في العقود الأخيرة قد كرّست تعاقدات فرعية، وخفضا للأجور، وتدهورا في شروط العمل، بحيث أصبحت هذه الفئات تشكّل الفَقار غير المرئي للمدن. تثير هذه التحوّلات قضايا سياسية واجتماعية خطيرة تتعلق بالفقر، والاندماج الاجتماعي، والعدالة الاقتصادية، ما يستدعي مقاربات جديدة في سياسات العمل، والتنمية، والهجرة، لضمان استدامة تقسيم العمل العالمي وتحقيق التوازن بين الكفاءة الإنتاجية وكرامة الإنسان..