يضمّ العالم الإسلامي اليوم طيفا واسعا من الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، توزّعت إراضيا وتاريخيا ضمن الفضاء الحضاري الإسلامي الممتدّ من أقصى الرباط إلى أواسط آسيا. وقد استطاعت بعض هذه الأقلّيات أن تندمج بفاعلية في النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة الإسلامية، وأسهمت في نهضتها الفكرية والاقتصادية، فكانت عنصر إثراء ولم تكن عنصر صدام واحتراب. غير أنّ هذا التفاعل لم يكن على وتيرة واحدة. فقد احتفظت بعض الأقلّيات، لا سيّما تلك التي انشقت عن التيار الإسلامي العام، كالإثني عشرية والنصيرية، بمواقف متوتّرة تجاه الأغلبية المسلمة، قائمة على سرديات تاريخية مثقلة بثقافة المظلومية والثأر. وغالبا ما تشكّل هذه المواقف عائقا أمام تحقّق مبدأ المواطنة المتساوية، حيث لا تُبنى العلاقة مع الدولة والمجتمع على أسس قانونية موحّدة، بل على اعتبارات مذهبية تُعيد إنتاج الانقسام الطائفي، وتُوظَّف أحيانا سياسيا داخل حدود الدولة أو خارجها.
وتكمن أهمية النظر في هذا الإشكال في أنّه لا يتعلّق فقط بوقائع تاريخية، بل يمتدّ إلى أنماط التفكير والتأويل الديني التي ما تزال حاضرة بقوّة في وجدان بعض الطوائف، وتؤثّر في سياساتها وتحالفاتها وخطابها الاجتماعي والثقافي، ممّا يجعل من دراسة هذه الظاهرة ضرورة لفهم تعقيدات الواقع الإسلامي المعاصر، وآفاق الوحدة والعيش المشترك.
تعريف الأقلية
الأقلية هي مجموعة بشرية داخل مجتمع معين تختلف عن غالبية السكان في أحد أو أكثر من الخصائص الثقافية أو الدينية أو اللغوية أو العرقية. تتميز الأقلية غالبا بموقع اجتماعي هامشي، وتواجه صعوبة في الوصول إلى السلطة أو تمثيل نفسها في البِنَى السياسية والاقتصادية للمجتمع. في علم الاجتماع، لا يُنظر إلى الأقلية من حيث العدد فقط، بل من حيث التوازنات البِنْيوية والقوّة. فالمعيار الأساسي هو التهميش والتمييز البنيوي وليس الكمّ العددي. ويعرّفها الربيز الأستاذ: بسيوني الخولي بأنّها: «جماعة من الناس يرتبط أفرادها ببعضهم عبر ثقافة وحضارة وهوّية قومية مشتركة، وتكون هذه هي الأقلّية العرقية أو يرتبط أفرادها بدين معيّن فتكون هذه هي الأقلّية الدينية وتعيش هذه الأقلّية داخل مجتمع يجمع أقلّيات أخرى وأغلبية متجانسة».
مسألة الأقليات الدينية
لم تعرف الحضارة الإسلامية، في أزمنة ازدهارها كما في فترات ضعفها، أي شكل من أشكال الاضطهاد الديني أو الطائفي المؤسّسي، بل عاشت الأقليات الدينية في كنفها بأمان وعدل، وشاركت بفعّالية في البناء الحضاري، حيث أسهمت إسهامات بارزة في ميادين العلم والفنّ والاقتصاد ضمن الإطار العام للثقافة الإسلامية. وإن وُجد ظلم في بعض العصور، فإنّه لم يكن موجَّها إلى طائفة بعينها، بل شمل جميع المحكومين، مسلمين وغير مسلمين، نتيجةً لفساد بعض الحكّام.
ويتميّز العالم العربي بتنوّع ديني ومذهبي غنيّ، شكّل أحد أبعاد تركيبته الاجتماعية والسياسية. وقد أشار عدد من المفكرين العرب إلى أن إثارة مسألة الأقليات الدينية بشكلها الحديث لم تكن إلا ثمرة من ثمار التدخّل الاستعماري، حيث اعتبروا أنّ هذه المسألة لم تكن مطروحة على نحو صراعي أو تأزيمي قبل القرن التاسع عشر، أي قبل سقوط الخلافة الإسلامية وبروز الدولة الغربية الحديثة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه المسألة تُطرح كواقع سياسي واجتماعي لا يمكن تجاهله. فقد انطلقت مأسسة الطائفية في المنطقة العربية مع التدخّلات الاستعمارية في جبل لبنان، وانطلقت لاحقا مع الدور الاستعماري الفرنسي في التلاعب بالهُوّيات الطائفية في بلاد الشام، ومحاولة تقسيم سورية على أسس طائفية وتأسيس دولة لبنان الكبير. ولعل لبنان يُعدّ نموذجا واضحا على هذا التحوّل: فقد عاش اللبنانيون في ظلّ الحكم الإسلامي لقرون طويلة من دون أن يشهدوا مذابح طائفية، لكن مع زوال الدولة الإسلامية ودخول الاستعمار الأوروبي، تفجّرت النزاعات الطائفية، بل غذّاها الاستعمار وحرّكها. ففي عام 1860م، حرّضت بريطانيا الدروز على الموارنة فيما عُرف بطوشة النصارى، وهي المجازر التي لم يُوقفها سوى تدخُّل الأمير عبد القادر الجزائري، على الرغم ما كان يعانيه هو وشعبه من بطش الاستعمار الفرنسي المسيحي، الذي مارس أبشع صنوف القمع بحق المسلمين في الجزائر من قتل وتدمير المساجد ومصادرة الأراضي وطمس الهُوّية.
وعليه، فإنّ تحميل الإسلام مسؤولية تردّي الأوضاع السياسية أو الاقتصادية في العالم العربي والإسلامي اليوم هو طرح مجاف للواقع. فالإسلام في جوهره ينصّ على حماية الأقلّيات وصون حقوقهم، وهو ما عبّر عنه كثير من المسلمين الذين لا يطالبون فقط بحقوق الأقليات الدينية، بل يطالبون معهم بحقوقهم المسلوبة في ظلّ الأنظمة القمعية والعلمانية التي تحكم أغلب البلدان العربية والإسلامية.
ومن هذا المنطلق، فإنّ مناقشة مسألة الأقليات الدينية لا يمكن أن تكون محايدة عن الإطار السياسي القيمي الذي يحكم العلاقة بين الأغلبية والأقلّيات، بل يجب أن تنطلق من رؤية شاملة تقوم على نموذج الدولة الإسلامية أو الخلافة أو الاتحاد الإسلامي، أو أي صيغة أخرى تعبّر عن وحدة المسلمين في ظلّ نظام عادل يحكم بالشريعة ويحفظ التنوّع تحت مظلّة المساواة والمواطنة المسؤولة. يمكن تصنيف الأقلّيات الدينية في العالم العربي إلى فئتين رئيستين، تمثّل كلّ منهما سياقا تاريخيا واجتماعيا متميّزا:
• الأقليات الدينية غير المسلمة – تنتمي هذه الفئة إلى جماعات دينية قديمة متجذّرة في النسيج الاجتماعي والثقافي للمنطقة العربية منذ قرون طويلة، بل وآلاف السنين في بعض الحالات. وتُعدّ هذه الأقلّيات جزءا أصيلا من شعوب المنطقة، وقد أسهمت عبر التاريخ في بناء الحضارة والمشاركة في تسيير شؤون المجتمعات والدول. من أبرز هذه الجماعات: المسيحيون، واليهود، والصابئة، واليزيديون، والآشوريون، إضافة إلى الأرمن الذين، على الرغم من كونهم وافدين تاريخيا، إلّا أنّهم اندمجوا ضمن النسيج العربي المسيحي المحلّي، من دون تشكيل طيف ديني مغاير بشكل جوهري.
• الأقليات الدينية المنبثقة من داخل السياق الإسلامي – تنتمي هذه الفئة إلى طوائف نشأت ضمن الفضاء الثقافي والديني الإسلامي، إلّا أنّها دخلت تاريخيا في صراعات طويلة الأمد مع الغالبية المسلمة، من حيث العقيدة والسلطة. وقد برزت بعض هذه الطوائف بوصفها قُوى سياسية حاكمة، كما في حالات الدولة العبيدية، والصفوية، والبويهية، والقرمطية، والحشّاشين. وغالبا ما اتّسمت تجاربها السياسية بنزعة طائفية مغلقة، اتّسمت بالغلو، والجمود العقائدي، وممارسات القمع والقتل الممنهج.
يعود منشأ بعضها إلى البدايات المبكّرة للإسلام، مثل الطائفة الشيعية التي تُنسب تقليديا إلى علي بن أبي طالب، بينما نشأت أخرى في عصور متأخّرة، نتيجة الانقسام الداخلي والارتكاز على شخصية القائد الشكيد أو المرجع الروحي المؤسّس، كما في حالات البابية، والبهائية، والقاديانية وغيرها، والتي غالبا ما صنّفت خارج الإطار العقدي الإسلامي التقليدي.
أمّا من حيث الأقليات العرقية، مثل: الأكراد، والتركمان، والشركس، والبوشناق، وغيرها من المكونات الجَناثية الأخرى، فإنّ النظام الإسلامي لا يمنح للانتماء العرقي أو الجَناثي أي وزن في بنية الحكم أو الاعتبار الاجتماعي، إذ يستند التصوّر الإسلامي إلى مبدأ وحدة الإنسانية والإيمان بالله، والاحتكام إلى الشريعة، وليس إلى العرق أو اللون أو الأصل. بل يُنظر إلى هذا التنوّع العرقي باعتباره أحد مصادر الثراء الحضاري والثقافي. ومن هذا المنطلق، فإنّ الانتماء على أساس الدين، وليس العرق، هو ما يعبّر حقيقة عن اختيار الفرد وولائه الوجداني، وهو الذي ينبغي أن يُحترم في إطار من العدالة والمساواة والسماحة التي يشكلّها الفضاء الإسلامي في حالته المثالية.
في النقاشات الحقوقية الدولية، يُطرح مطلب حماية الأقلّيات باعتباره أحد المبادئ الأساسية لضمان السلم الاجتماعي، ومنع التمييز والاستئصال الثقافي والديني. وهذا المطلب في جوهره مطلبٌ عادل من حيث المبدأ، إذ يعكس الالتزام بالكرامة الإنسانية وحقّ الاختلاف، ويمنع طغيان الأكثرية على من هم دونها عددا أو نفوذا. غير أنّ الخطاب الغربي في هذا السياق غالبا ما يتعامل مع العالم الإسلامي من زاوية واحدة، فيُركّز على الأقلّيات بوصفها ضحية دائمة، ويغفل في كثير من الأحيان عن ضرورة حماية الأكثرية ذاتها من تغوّل بعض الأقلّيات التي تستند إلى سرديّات ثأرية أو مشاريع خارجية أو تأريخات مشحونة بالعداء الديني والثقافي.
إذ لا يمكن غضّ الطرف عن وجود أقليات دينية أو طائفية داخل بعض المجتمعات الإسلامية تستحضر قراءات معيّنة للتاريخ تقوم على مظلومية مؤسّسة، وتُبنى عليها مشاريع انتقام رمزي أو فعلي من الأكثرية، سواءً من خلال الخطاب، أو التحالفات الدولية، أو الاستقواء بقُوى خارجية على النسيج الوطني. وهنا تصبح الأكثرية –على الرغم من عددها– هدفا هشّا للاختراق والتفكيك، مما يُخلّ بتوازن العدالة الحقيقي.
العدالة لا تكتمل إلّا حينما يُعاد تعريف الحماية بوصفها متبادلة غير محصورة بالعدد: حماية الأقلّيات من تعسّف الأكثرية، وحماية الأكثرية من تغوّل الأقليات حين تمتلك أدوات تأثير مفرطة أو سرديّات تدميرية. فالمجتمعات لا تُبنى على المظلومية، بل على التكافؤ في الانتماء، والتشارك في المصير، وعلى فهم عادل للذاكرة المشتركة لا توظيفها كأداة انقسام.
أوّلا : الأقلّيات الدينية غير المسلمة – في إطار التشريع الإسلامي، حظيت الأقليات غير المسلمة داخل المجتمع المسلم بمعاملة قانونية وأخلاقية متميزة، لم يسبق لها نظير في أي نظام قانوني آخر أو في أي دولة من دول العالم عبر العصور. ويُعزى ذلك إلى أنّ العلاقة بين المسلمين وغيرهم من غير المحاربين قامت على أسس شرعية واضحة، من أبرزها ما ورد في قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (الممتحنة، 8). تُحدِّد هذه الآية الكريمة الإطار الأخلاقي والقانوني الذي ينبغي أن يحكم تعامل المسلمين مع غيرهم، وهو إطار قائم على البرّ والعدل في حقّ كلّ من لم يظهر العداء للمسلمين أو يعتدِ على ديارهم. وتُعَدّ هذه المبادئ من القيم الإنسانية الرفيعة التي لم تعرفها المجتمعات البشرية بشكل منظّم قبل الإسلام، وقد ظلّت كثير من الأمم بعد ظهوره تعاني من غيابها. بل إنّ العالم المعاصر، على الرغم من تقدّمه التشريعي والصِّنْعي، ما يزال يسعى إلى تحقيق هذه القيم في مؤسّساته ومجتمعاته، إلا أنّ الأهواء، والنزعات العصبية، والتوجّهات العنصرية ما تزال تُشكّل عوائق حقيقية أمام تجسيدها الفعلي.
• حقوق الأقليات الدينية – أقرّ التشريع الإسلامي للأقليات غير المسلمة جملة من الحقوق والامتيازات، ويأتي في طليعتها ضمان حرّية الاعتقاد. وقد أسّس هذا المبدأ على نصّ قرآني صريح في قوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة، 256)، وهو نصّ يُعبّر عن قاعدة أصيلة في النظرية الإسلامية للتعايش الديني، تقرّ بحرّية الفرد في اختيار معتقده من دون إكراه أو ضغط. وقد تجسّدت هذه القاعدة في التطبيق العملي لسياسة الرسول عليه الصلاة والسلام، كما يظهر في رسالته إلى أهل الكتاب من أهل اليمن، حيث قال كما جاء في سيرة ابن هشام وغيرها: وإنّه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنّه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنّه لا يُفتن عنها. ويُفهم من هذا النصّ أن الدخول في الإسلام حقّ مشروع، وأن البقاء على الدين السابق لا يُعدّ جريمة ولا موجبا للضغط أو الإكراه.
وعلاوة على ذلك، لم يقتصر التشريع الإسلامي على ضمان حرّية الاعتقاد من الناحية النظرية، بل سنّ ما يكفل حماية حياة غير المسلمين بوصفهم بشرا لهم حقّ الحياة والكرامة. ومن أبرز النصوص النبوية في هذا السياق قوله صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة (رواه البخاري)، وهو تصريح واضح يُجَرِّم الاعتداء على المعاهدين، ويجعل المساس بأنفسهم أمرا محرّما في أعلى درجات التحريم.
ومن أوجه العدل والرحمة التي تجلّت في التشريع الإسلامي ما قرّره من حقّ للأقلية غير المسلمة في الرعاية الاجتماعية، إذ تضمن الدولة الإسلامية كفالتهم من بيت المال في حال العجز أو الكِبَر أو الفقر، أسوة بالمواطنين المسلمين. ويقوم هذا المبدأ على أساس المسؤولية الشاملة التي حمّلها الإسلام للسلطة تجاه جميع رعاياها، استنادا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته (رواه البخاري)، وهو نصّ يرسّخ مبدأ الشمول في الرعاية، بلا تمييز بين مسلم وغير مسلم، ما دام الجميع تحت كنف الدولة. وقد تجسّد هذا المعنى في الممارسة العملية منذ العهد النبوي، كما يروي أبو عبيد بن سلّام في كتابه الأموال عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن رسول الله تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تُجرى عليهم. ويدلّ هذا على أنّ الرعاية لم تكن نظرية أو استثنائية، بل ممارسة ثابتة مدعومة بتشريعات واضحة ومواقف تطبيقية، تنبئ عن عمق التصوّر الإسلامي للعدالة الاجتماعية بوصفها حقّا إنسانيا شاملا.
• المواطنة لدى الأقليات الدينية غير المسلمة – لم تعرف الدولة الإسلامية، عبر تاريخها الممتد، ما يُسمى بأزمة المواطنة بالنسبة للأقليات الدينية غير المسلمة، إذ استندت علاقتها بهم إلى منظومة تشريعية واضحة، ضمنت لهم مكانة قانونية وأخلاقية ثابتة، تقوم على أسس العدل، والمساواة في الحقوق المدنية، والحرية الدينية، والرعاية الاجتماعية. فهؤلاء لم يُعامَلوا كغرباء أو وافدين، بل اعتُبروا جزءا من نسيج الأمّة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، في إطار من التعاقد والضمان المتبادل. وقد أقرّ الإسلام مبدأ التعدّد الديني داخل الدولة، مع احترام عقائد غير المسلمين وعدم المساس بحرّية اعتقادهم أو شعائرهم. كما تمتّعوا بالحماية القانونية الكاملة، التي شملت أرواحهم وأموالهم ومعتقداتهم، وهو ما تؤكّده نصوص صريحة، الأمر الذي يُظهر بوضوح أنّ الانتماء الديني لم يكن سببا في الانتقاص من الحقوق، بل كانت العلاقة تُبنى على عقد الذمّة، الذي يُعدّ شكلا من أشكال المواطنة المسؤولة، تتبادل فيه الدولة والرعية الالتزامات والحقوق. كما لم يُقصِ التشريع الإسلامي غير المسلمين من مظلّة الضمان والرعاية الاجتماعية كما بيّناه آنفا، بل كفل لهم الإعانة من بيت مال المسلمين عند الحاجة.
والأهم من ذلك، أنّ هذه الأقليات لم تكن منعزلة عن مَحاطها السياسي والاجتماعي، ولم تتّخذ موقفا عدائيا أو انفصاليا عن الدولة، بل انخرطت في الحياة العامّة، وتمازجت مع النسيج المجتمعي المسلم، وشاركت بفعّالية في مختلف ميادين الإنتاج والثقافة، بل وفي الإدارة والطبّ والسياسة أحيانا، بما جعلها فاعلا إيجابيا لا غريبا هامشيا. وقد كان لحضورها هذا أثرٌ بارزٌ في إثراء الحضارة الإسلامية، التي ظلّت منفتحة على التنوّع والتعدّد من دون أن يُشكّل ذلك تهديدا على وحدة الدولة أو انسجامها الداخلي.
ومن ثمّ، فإنّ التجربة الإسلامية في التعامل مع الأقليات الدينية تبرهن على أنّ المواطنة لم تُبنَ على مبدأ الانتماء الديني، وإنّما على أساس التعايش العادل والتكافل الاجتماعي والاحترام المتبادل، في إطار دولة جامعة لا تُقصي ولا تُفرّق.
المواطنة في الإسلام عبر النصّ التشريعي والتطبيق العملي.
• عهد النبي عليه الصلاة والسلام مع اليهود في المدينة – عند قدوم النبي إلى المدينة، كان فيها يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فكتب معهم صحيفة المدينة، والتي أُدرج فيها اليهود كجزء من أمة واحدة سياسيا، لكن مع احتفاظهم بدينهم وعقائدهم. ومن أبرز بنود الصحيفة: (1) لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم؛ (2) وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ (3) وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. ويُظهر هذا نموذجا واضحا لمواطنة متعدّدة المرجعيات، من دون أن تذوب الهُوِّيات.
• الخلافة الراشدة – عهد عمر بن الخطاب مع أهل إيليا (القدس). عندما فتح المسلمون القدس، عقد الخليفة عمر بن الخطاب مع أهلها العهدة العمرية، والتي من أشهر بنودها: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُكرهون على دينهم. لم يُطلب من النصارى أنّ يُغيّروا دينهم، ولا أن يتبنّوا مرجعية إسلامية، بل ضُمنت لهم حرّياتهم الكاملة ضمن الدولة الإسلامية، حتّى مع بقاء عقيدتهم مخالفة.
• الأندلس تحت الحكم الإسلامي – كان اليهود والنصارى في الأندلس يعيشون جنبا إلى جنب مع المسلمين، وكان لهم قُضاتهم، ومدارسهم، ومعابدهم، وكانوا يُعيّنون في وظائف الدولة. بل إنّ فترة الحكم الإسلامي في الأندلس تُسمى لدى بعض المؤرّخين اليهود بالعصر الذهبي لليهود في إسبانيا. وقد كتب المؤرّخ الفرنسي غوستاف لوبون: لم يعرف اليهودُ طوال تاريخهم معاملة أعدل ولا أرحم من تلك التي تلقّوها تحت الحكم الإسلامي في الأندلس.
• الدولة العثمانية ونظام الملل – طوّر العثمانيون نظاما قانونيا يُعرف بنظام المِلَل، حيث تم تقسيم المجتمع إلى طوائف دينية (مسلمين، يهود، أرمن، كاثوليك، إلخ)، وكل طائفة كانت تُمنح الحقّ في تنظيم شؤونها الداخلية: الزواج، والطلاق، والميراث، التعليم، المحاكم.
في كلّ هذه الأمثلة، كانت الحرّيات الدينية محفوظة، لكن مع وضوح المرجعية العامّة للدولة. لم تُفرض عقيدة، لكن لم يُسمح أيضا بخلط العقائد ومزاحمة المرجعية الأساسية للأمّة. فحين تَقبل الطوائف غير المسلمة أو الخارجة عن الإسلام وضعها كطائفة مستقلّة لا تدّعي تمثيل الإسلام، فإنّ الإسلام يُقرّ لها بحقوق واسعة في إطار المواطنة والعدل والحرّية.
ثانيا : الأقلّيات الدينية المنبثقة من داخل السياق الإسلامي – شهد التاريخ الإسلامي منذ مراحله الأولى تفرّع عدد من الطوائف والجماعات التي خرجت عن التيار الإسلامي العام الذي تمثّله جماعة المسلمين التي سُمّيت فيما بعد جمهور أهل السنّة والجماعة. وقد نشأت هذه الفرق في سياقات سياسية وعقدية مختلفة، بعضها انبثق نتيجة أحداث الفتنة الكبرى، وبعضها جاء نتيجة اجتهادات فكرية تجاوزت أصول العقيدة أو أخرجت بعض أتباعها من الإطار الجامع للأمة. ومن أبرز هذه الفرق: الخوارج الذين شكّلوا انشقاقا سياسيا وعقديا حادّا في الإسلام، ثم المعتزلة الذين قدّموا العقل على النص في قضايا الاعتقاد، إضافة إلى طوائف الباطنية والإسماعيلية والنصيرية والدروز وغيرهم، ممن تشعّبت عن أصول الشيعة أو خرجت عنها بدرجات متفاوتة. إلّا أن الطائفة التي حازت في العصر الحديث على القدر الأكبر من الحضور والامتداد السياسي والاجتماعي هي الطائفة الشيعية الإمامية الاثنا عشرية. فقد تحوّلت هذه الطائفة من كونها تيارا هامشيا في التاريخ الإسلامي إلى فاعل إقليمي مؤثّر في مجريات العالم الإسلامي، نظرا لما تحظى به من دولة حاضنة (إيران)، ومن شبكة تحالفات دينية وعسكرية وثقافية ممتدّة. وهو ما يجعل تناول هذه الطائفة من حيث النشأة، والمعتقد، والموقف من جماعة المسلمين أمرا بالغ الأهمية لفهم المشهد العقدي والسياسي في العالم الإسلامي المعاصر.
• بداية الفتنة ومسار التشظي الطائفي – بدأت الفتنة الكبرى التي عصفت بوحدة الأمة الإسلامية في أعقاب مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت في أصلها تمرُّدا بدوافع اقتصادية. فقد ظهرت جماعات تعيب على عثمان سياسات التوزيع المالي، وتتّهمه بمحاباة أقاربه وتوليتهم المناصب الحساسة. والواقع أنّ عثمان لم يحد عن نهج سلفيه أبي بكر وعمر في إدارة بيت المال، غير أنّ تطوّر الدولة واتساع رقعتها، إضافة إلى دخول عناصر جديدة إلى الإسلام من الشعوب الأخرى، أسهم في تغذية هذا السخط الاقتصادي. ومن الملفت للنظر أنّ هذا الصنف من الذين تمرّدوا على عثمان رضي الله عنه كان موجودا حتّى في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد عابوا عليه الأمر نفسه، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (التوبة، 58). ممّا يدلّ على أنّ النوازع الاقتصادية كانت، وما تزال، شرارة أولى في إشعال الاضطرابات، التي سرعان ما تكتسب طابعا سياسيا ثم دينيا، لا سيّما في المجتمعات البدوية التي لم تترسّخ فيها أسس الفكر المدني والاجتماعي.
لقد تحوّلت الفتنة من مطالب مالية إلى تيّار سياسي عندما قبل علي بن أبي طالب مبايعة قتلة عثمان، وأعرض عن إقامة القصاص عليهم، الأمر الذي دفع كثيرا من الصحابة إلى رفض هذه الخطوة. فعلي لم يُنصّب أصلا للخلافة، ولم تقم له البيعة إلّا في المدينة المنوّرة على يد بعض العامّة والصبيان ومن لا يملك أهلية الحلّ والعقد، الأمر الذي فتح الباب لشرعية معارضة سياسية مستحدثة داخل الأمّة. كما أنّ لعلي موقفا عقديا خاصّا في مسألة الخلافة، حيث كان يرى أنّه الأحقّ بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما أدركه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقام بإدخاله في قائمة المترشّحين الستّة للخلافة من بعده، محاولا بذلك أن يجعل المجتمع هو من يتصدّى لعلي في هذه القناعة، وأن يكبح نزعتها غير المتوافقة مع المبادئ الإسلامية الكبرى، التي تجعل التفاضل قائما على الكفاءة والعمل لا على القرابة والنسب، وهي من بقايا الجاهلية التي جاء الإسلام لإزالتها.
إلا أنّ أخطر ما ترتّب على موقف علي هو تمكين المعارضة السياسية المندحرة أمام الجيوش الإسلامية من الاستقلال عن الجماعة المسلمة، ومن ثمّ تشكيل نواة لكيان منفصل عن التيّار السائد. ولأن عليا كان صحابيا وزوج ابنة النبي عليه الصلاة والسلام ومرشّحا للخلافة، فإن انشقاقه أضفى على هذا التيّار الجديد بعدا شرعيا وشعبيا لم يكن ممكنا قبله.
وقد وجدت القُوى المهزومة في الفتوح الإسلامية، وعلى رأسها فلول الدولة الفارسية، في هذا الانقسام فرصة تاريخية لاختراق الدولة من الداخل وتأسيس تيّار يواجه المجتمع المسلم المتوحّد. والمعروف تاريخيا أنّ جلّ الشيعة كانوا من العنصر الفارسي، فقد انضمّت هذه العناصر الشعوبية والباطنية إلى علي وتسلّلت إلى صفوف أتباعه، وبايعته ظاهرا، ثم سعت إلى الهيمنة على خطابه وتيّاره. ومع الوقت، بدأ التأسيس لقراءات عقدية منحرفة، كان أوّلها تأليه علي نفسه في حياته، وهو ما فعله أتباع عبد الله بن سبأ، المعروفين بالسبئية. ومن هناك بدأت جذور التشيع الشعوبي السياسي الذي سيأخذ طابعا دينيا حادّا، لا سيّما في الدولة البويهية ثم الصفوية.
الفرق الشيعية وتطوّرها عبر التاريخ.
حفلت كتب الفرق والمذاهب بذكر طوائف الشيعة وفرقهم، والملفت للنظر هو كثرة هذه الفرق، وتعدّدها بدرجة كبيرة حتى تكاد تنفرد الشيعة بهذه السمة. فعلى مرّ التاريخ، انبثقت عن التشيّع طوائف شتى، منها من غلا في أئمّته وخرج عن العقيدة الشيعية السائدة، ويُعرف هؤلاء بالغلاة، ومنها من بقي ضمن إطار التشيّع العام، إضافة إلى فرق ظهرت ثم انقرضت ولم يبق لها أثر إلا في كتب التاريخ. ومنها: السبئية، أتباع عبد الله بن سبأ، وهو يهودي يُنسب إليه نشر فكرة ألوهية علي بن أبي طالب، ويُعدّ فكر هذه الفرقة من أوائل مظاهر الغلو، وما تزال آثار غلوّها ماثلة في الفكر الشيعي المعاصر. ومن الفرق الأخرى: الكيسانية، والمختارية، والفطحية، والواقفية، والمحمدية، والسميطية، وغيرها ممّا يوصف بالفرق الأولى أو المنقرضة. أما في العصر الحاضر، فقد استقر التشيع على ثلاث فرق رئيسة: (1) الزيدية، وهي الأقرب إلى مذهب أهل السنّة في بعض أصولها، وتوجد غالبا في اليمن؛ (2) الإسماعيلية الباطنية، وتتميز بتفسيرها الباطني وتأويلاتها الغامضة للقرآن والشريعة، وتنتشر في الهند وآسيا الوسطى وأفريقيا؛ (3) الإمامية الاثنا عشرية، وهي الفرقة الأكبر من حيث العدد، والأوسع انتشارا إراضيا، وتُعدّ اليوم الممثّل الرئيس للتشيع، إذ يُقصد غالبا بالشيعة عند الإطلاق أتباع هذه الفرقة دون غيرها.
ظهرت هذه الفرقة تدريجيا بعد وفاة الحسين بن علي، وتبلور مذهبها بعد وفاة جعفر الصادق، حيث وقع الانقسام بين من تبنّى إمامة ابنه إسماعيل، ومن قال بإمامة موسى الكاظم، وهم من أصبحوا لاحقا الاثني عشرية. وهم يؤمنون باثني عشر إماما معصومين من نسل علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنها، آخرهم هو محمد المنسوب إلى الحسن العسكري، والذي يُقال إنّه دخل في الغيبة الكبرى منذ سنة 329، ويعتقدون أنّه ما يزال حيّا، وسيظهر في آخر الزمان بصفته المهدي المنتظر. أهمّ عقائد هذه الفرقة:
- - الإمامة : وهي أصل من أصول الدين عندهم، ويعتبرون أنّ الإمامة نصٌّ إلهي لا تُترك للشورى، وأنّ كلّ إمام يعيّنه الإمام الذي قبله؛
- - العصمة : يعتقدون بعصمة أئمّتهم من الخطأ والنسيان والمعصية، ويجعلون لهم منزلة تفوق منزلة الأنبياء؛
- - التقية : وهي إظهار خلاف ما يبطن الشخص من العقيدة، ويعدّونها من أهم وسائل حفظ الدين؛
- - الرجعة : يؤمنون بأنّ بعض الأئمة وأعداءهم سيعودون إلى الحياة قبل يوم القيامة لينتقم الأئمّة من خصومهم؛
- - تحريف القرآن : وهو أنّ القرآن الذي بين أيدينا اليوم وقع فيه التحريف والتبديل من قبل أئمة الضلال وهم الخلفاء الثلاثة الأوائل، وأنّ القرآن الذي جمعه علي، قد ورثه المهدي وسيُظهره بظهوره؛
- - الغيبة : وهي الغياب الطويل للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، والذي سيعود بحسب معتقدهم ليملأ الأرض قسطا وعدلا.
الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، على الرغم من كونهم الفرقة الأكثر عددا وانتشارا بين فرق الشيعة، يحملون في معتقداتهم ما يميزهم جِذْرانيا عن بقية المسلمين. وقد أثّر ذلك على العلاقة التاريخية والفكرية والسياسية بينهم وبين جمهور أهل السنّة، وما تزال آثار هذا الاختلاف قائمة في العديد من المجتمعات الإسلامية حتّى اليوم.
الاختلافات بين عامّة المسلمين والشيعة.
- السنة والشيعة، بين احتراكية التجديد وجمود الطائفة : من الظواهر اللافتة في البنية الاجتماعية والفكرية للأديان، أنّ التكوين المذهبي السني في الإسلام يظهر في كثير من خصائصه كظاهرة شبيهة بالبروتستانتية في المسيحية، من حيث حيوية الاجتهاد، والانفتاح على إصلاح الفكر، ومرونة التكيّف مع الواقع، وإعادة النظر في البِنَى الفقهية أو السياسية بما يخدم وحدة الأمّة وتجدّدها. فالفكر السني، منذ نشأته، لم يُنتج كهنوتا أو طبقة روحية مغلقة، بل كان الفقهاء فيه أقرب إلى مفكرين اجتماعيين مرتبطين بالناس أكثر من ارتباطهم بالسلطة أو المعبد، بل كان من بينهم الخبّاز والدبّاغ والأبّار والتمّار والبزّاز كأبي حنيفة، ولذلك نجد أن التجديد الفقهي والعلمي والسياسي كان دوما حيّا في الدين السنّي، على الرغم من الفتن والانقسامات.
على العكس من ذلك، تتشابه الطوائف الباطنية أو المنسوبة إلى الإسلام كالإمامية والنصيرية والإسماعيلية، في الكثير من أوجهها التنظيمية والرمزية، مع الأرثوذكسية المسيحية، بما تحمله من ثقل الرموز القديمة، والطقوس الثابتة، والعزلة عن المجتمع، والاعتماد على التقاليد السرّية أو الهرمية المغلقة. فهي لا ترى في التاريخ مجالا للدرس والتحليل، بل تحوّله إلى بِنْية لاهوتية تستبطن الماضي وتعيش فيه، وتعيد إنتاج رموزه بشكل دوري، كما هو الحال في الطقوس العاشورائية والاحتفالات الطائفية التي تعيد تمثيل صراعٍ قديم في قالبٍ ديني.
وإذا كان البروتستانت قد قاموا بإصلاح جِذْراني داخل المسيحية، عبر العودة إلى النصوص المؤسّسة ونزع القداسة عن رجال الدين، فإنّ التيار السنّي –بطرق مختلفة– قد سار نحو مسارات مشابهة، أهمها: غياب المركزية الدينية، وتعدد المرجعيات، وانفتاح الفكر على التغيير والتجديد، وتقبّل الاجتهاد المستقلّ.
أما الطوائف التي تشبه الأرثوذكس –لا سيّما في نسختها الشرقية– فإنّها تقاوم الإصلاح، وتقدّس السلالة، وتعتبر العقيدة ميراثا مغلقا لا يخضع للعقل أو المراجعة. وهذا يُفسّر تمسّكها القوي بالرموز والأشخاص، أكثر من تمسّكها بالقيم العامّة أو المقاصد الكبرى للدين.
إشكالية المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية.
- البعد الذهنيائي والرمزي : تقوم بعض الطوائف على إحياء رموز الصراع القديم بين الصحابة وأهل بيت علي، وتحويل هذا الخلاف إلى هُوّية جمعية. فرمز يزيد –مثلا– لم يعد في الذهنية الطائفية مجرّد حاكم أموي، بل أصبح رمزا لكل سلطة سنّية. وكلّ نظام سياسي حديث يُصوّر على أنّه امتداد ليزيد، وكلّ معارض له يُجسَّد في صورة الحسين. وهكذا، تحوّلت الشخصيات التاريخية إلى رموز ذِهْنيائية تُعاد كتابتها وتأويلها وَفْق مصالح الطائفة، وليس وفق منطق العلم التاريخي. وهذا التثبيت للماضي يخلق شعورا دائما بالاضطهاد، ما يعزز النزعة الانقلابية ويمنع الاندماج الوطني.
- الباطنية والسرّية : تميّزت هذه الطوائف بطبيعة باطنية سرّية. نشأت في سياق سياسي واجتماعي مضطرب، فاتّخذت طابعا تنظيميا سرّيا. تستبطن أفكارا لا تُعلنها، وتُظهر ما لا تبطن. وهذه الباطنية الدينية ترتبط ارتباطا مباشرا بمفاهيم مثل: التقية، والتي اعتُبرت أداة للبقاء والتغلغل في المجتمعات. وتاريخيا، كانت هذه الطوائف تعتمد على مراحل: تبدأ بالدعوة السرّية، ثم تجنيد الأنصار، ثم الإعداد للانقضاض على السلطة. وقد ظهر ذلك بوضوح في تجارب العبيديين، والصفويين، وغيرهم.
- التأويلات الخارقة والكرامات : من خصائص هذه الطوائف أنها بنت خطابها العقدي على الكرامات والمعاجز والخوارق، ممّا سهل تجنيد الجماهير في سياقات بدوية أو تقليدية متخلّفة. وقد أدّى ذلك إلى تقارب بنيوي بين بعض الطرق الصوفية والفرق الباطنية، حيث يؤمن كلاهما بالقطب، والولي، والإمام الغائب، وكرامات الأولياء، وغيرها. وهذا التماهي جعل كثيرا من المتصوّفة يتحوّلون إلى التشيّع في ظروف معيّنة، كما حدث في الدولة الصفوية التي دمجت بين التصوّف والتشيّع لإنتاج نسق عقائدي مغلق يقوم على الولاء للإمام.
- أزمة المواطنة في الطوائف الباطنية : لا تعترف هذه الطوائف بمفهوم المواطنة الشاملة، بل تقوم على الانتماء الطائفي المغلق، وتضع شروطا عقائدية للولاء السياسي والاجتماعي. فكلّ من لم يلعن أعداء الطائفة التاريخيين أو لم يشكّك في شرعيتهم، يُعتبر عدوا، حتّى لو كان مسلما. ولذلك، فإنّ هذه الطوائف، حين تصل إلى السلطة، تميل إلى الإقصاء والتطهير، كما حصل في العراق وسوريا، حيث تحوّلت الدولة إلى أداة طائفية.
- البُعد الاستعماري واستغلال الطائفية : كان الاستعمار الغربي واعيا بهذه الفجوات، فسعى إلى توطين هذه الأقلّيات في مواقع السلطة. فالكَليز، حين احتلّوا العراق، جلبوا شيعة من الهند وأسكنوهم في الجنوب، وكان هؤلاء هم النواة التي اعتمدت عليها أمريكا لاحقا بعد غزو العراق. وقد صرّح بعض المسؤولين الأمريكيين علنا بنيّتهم إعادة العراق إلى العصر الحجري، وهو ما تحقّق فعليا عبر دعم نظام طائفي يعتمد على الولاء لإيران، ويقصي السنّة بشكل ممنهج.
مفارقة الأقليات الدينية غير الإسلامية والتحالف المدني.
يُلاحظ في تاريخ المجتمعات الإسلامية أنّ الأقليات الدينية غير الإسلامية، مثل المسيحيين واليهود والصابئة والآشوريين، غالبا ما انتهجت سلوكا مدنيا مسالما، وتبنت نموذج التعايش داخل الدولة الإسلامية، بل كانت لها إسهامات ثقافية وعلمية رائدة، حتى في ظلّ ما يُسمى بنظام أهل الذمّة. وعلى الرغم من أنّ هذه الأقليات تختلف دينيا مع المسلمين أكثر من الفرق الباطنية، إلّا أنّها لم تُظهر في الغالب نزوعا عدائيا تجاه الأغلبية، ولا سعت إلى إسقاط الدولة أو التآمر مع القوى الاستعمارية ضدّها. بل على العكس، تُظهر الوثائق التاريخية والمواقف السياسية أنّ كثيرا من هذه الأقليات –لا سيّما المسيحيين العرب– فضّلوا التحالف مع المسلمين ضدّ المستعمر، وشاركوا في الحركات القومية والنهضوية كجزء من نسيج الأمّة. ومن هذا المنظور، يمكن القول إنّ الفارق الجوهري بين الأقلّيات الدينية السلمية والطوائف الباطنية ذات النزوع الانقلابي، هو الفصل بين الدين والسياسة من جهة، وطبيعة النظرة إلى الآخر من جهة أخرى. فالأقليات الدينية، على الرغم من خلافها العَقَدي مع المسلمين، لم تبنِ وجودها على ثأر تاريخي أو كراهية طائفية، بل سعت للعيش المشترك ضمن إطار الدولة الجامعة، وهو ما يمنحها استقرارا واندماجا أوسع.
تماهي الهُوّية الدينية والسياسية عند الشيعة.
السنّي العلماني غالبا ما يتبنى فكرة فصل الدين عن الدولة، وقد يصل به الأمر إلى خصومة مع الدين نفسه أو الشريعة، بل وقد يتحالف أحيانا مع قُوى أجنبية أو محلّية ضد المشروع الإسلامي. لأنّ ما يميز المجتمع المسلم السنّي هو وضوح الولاءات، فالمسلم المتديّن على الرغم من عدم وجود حاضنة سياسية تحميه وتدافع عنه إلّا أنّه يجاهر بدعوته إلى تطبيق الشريعة ومشروعه السياسي من دون مواربة أو تستّر، والعلماني السنّي أيضا واضح في ولائه الذهنائي، فهو يعلن القطيعة صراحة مع موروثه الديني الإسلامي. هذا من دون أن نشير إلى الأثر السلبي لهذا الانقسام الداخلي في الجسم السنّي بين تيّارات لا تلتقي لا فكريا ولا سياسيا، وأحيانا حتى في الولاءات.
بينما الشيعي المتدين، يتّبع المرجعية الدينية، ويؤمن بالإمام المهدي، والولي الفقيه، وغالبا ما ينسجم مع المشروع السياسي الطائفي. أمّا الشيعي العلماني، فهو وإن ادّعى فصل الدين عن الدولة، فإنّه لا يُظهر عداءً للمرجعية الشيعية، ولا يعارض المشروع السياسي الذي تقوده القوى الشيعية المتديّنة (مثل الحشد الشعبي، أو ولاية الفقيه في إيران). بل في كثير من الحالات، يُلاحظ أنّ العلماني الشيعي يُصوّت، ويقف، ويدافع عن التيّار الشيعي الديني لأنّه يعتبره الامتداد الطبيعي لهُوّيته الطائفية. لذلك فإنّ الدعوة إلى الإصلاح الطائفي أو التعامل مع العناصر العلمانية أو غير المتديّنة فقط وإسقاط العناصر المتدينة من المعادلة السياسية لا يجدي نفعا أمام تماسك داخلي بين مكوّنات الطائفة، ما يجعلها قوّة سياسية موحّدة، حتى لو اختلفت الواجهات أو الشعارات، ويمكن تبيان انعكاسات هذا الواقع فيما يلي:
- حين تكون الطائفة موحّدة سياسيا وذات مشروع عَقَدي جامع، فإنّها تتحرّك ككتلة واحدة، قادرة على التفاوض، وفرض النفوذ، والضغط السياسي؛
- أمّا إذا كانت الطائفة أو الأغلبية منقسمة، فإنّها تُستنزف في الصراعات البينية، وتُفقد تأثيرها في بناء الدولة أو الحفاظ على ثوابتها. وللأسف الشديد هذا ما حدث في العراق، فحين غزا الأمريكيون العراق عام 2003، ظهرت المقاومة السنّية بوضوح، لكن لم يكن لها ظهير سياسي موحّد، لأنّ المرجعية السياسية السنّية كانت بيد الأحزاب العلمانية، فهي محسوبة على السنّة لكنّها في الوقت نفسه عدوّة للسنّة. أمّا الشيعة، فقد توزّعت أدوارهم بين متدينين يشاركون في الحكم (كالمالكي والصدر)، وعلمانيين (كعلاوي)، ومليشيات موازية (كالحشد)، لكنّهم جميعا كانوا يدورون في فلك المرجعية ومصلحة المشروع الطائفي.
هذا التماهي يعود إلى أنّ الهوية الطائفية الشيعية ليست فقط دينية، بل هي سياسية، وشعائرية، وتاريخية، واجتماعية، ولذلك، حتّى الشيعي العلماني، لا يستطيع -ولا يريد- أن يخرج من هذا الإطار، لأنّ خروجه يعني الخروج من الحسينيات، وزيارة الأربعين، والرموز الطائفية، والولاء التاريخي، إلخ.
والخلاصة، أنّ الاختلاف الجِذْراني بين السنّي والشيعي، في هذا السياق، ليس فقط في المرجعية، بل في الهُوّية الكاملة، فالعلماني السنّي يتخلّى عن جزء من هُوّية أمّته، بينما العلماني الشيعي يبقى متماهيا مع هُوّية طائفته، وهذا يُظهر لماذا كثير من العلمانيين الشيعة كانوا دائما جزءا من المشروع الطائفي، لا خصما له.
التماهي الطائفي وعلاقته بالدولة المدنية في الإسلام.
تقوم الدولة في التصوّر الإسلامي السنّي على أسس مدنية، فهي ليست دولة دينية بالمعنى الثيوقراطي، حيث لا تُستمدّ شرعيتها من الحق الإلهي، بل من اختيار الأمّة للحاكم بناءً على الكفاءة والجدارة. فالحاكم أو الخليفة يُنتخب لا يُعيّن بنصّ ديني، وتقوم الدولة على مبدأ المواطنة المتساوية بين جميع أفراد المجتمع، من دون تمييز على أساس العِرق أو الدين أو الطائفة أو الجَناثة.
وتُقرّ الدولة الإسلامية المدنية بالحرّيات الدينية الكاملة لجميع الطوائف والأقليات، وتمنح كلّ طائفة حرّية الاحتكام إلى شرائعها وأحكامها الخاصّة في شؤونها الداخلية، كما تُشارك هذه الطوائف سائر المواطنين في الحقوق السياسية والاقتصادية، والمشاركة في الفضاء العامّ والمؤسّسات الرسمية التعليمية والإدارية وغيرها. ووفقا لهذا التصوّر، فإنّ الأكثرية المسلمة لا تخرج عن كونها طائفة مثل غيرها، لكنّها –بحكم أغلبيتها الديموقراطية– قد تحتفظ بمنصب رئاسة الدولة. غير أنّ هذا المنصب لا يمنحها سلطة تمييزية على غيرها، إذ يظلّ الجميع متمتّعين بكامل حقوقهم الطائفية والدينية. وحتّى وإن تراجعت هذه الأكثرية عن موقعها الانتخابي، فإنها تظلّ متمتّعة بحقوقها ضمن الضمانات المدنية التي تحكم العلاقة بين مكوّنات المجتمع، كما هو الحال في نظم التحالفات السياسية المعاصرة.
هذا النموذج المدني التعدّدي هو ما عُرف تاريخيا بالطابع السنّي في الحكم، والذي مارسته الدولة الإسلامية في عصور ازدهارها، وهو أيضا ما يدعو إليه اليوم كثير من المفكّرين المسلمين، مع بعض التكييفات التي تقتضيها تطوّرات العصر ومتغيّراته الاجتماعية والسياسية.
في المقابل، يطرح النموذج الشيعي رؤية مختلفة لمفهوم الدولة والسلطة، تقوم أساسا على مبدأ الطائفة في قلب القرار السياسي. فالولاء الطائفي يسبق الانتماء الوطني، ويُعتبر أساسا للمشروعية السياسية، وليس المواطنة المتساوية. وتتمحور مرجعية الحكم الشيعية حول الثيوقراطية، حيث يُنسب منصب الإمامة إلى التعيين الإلهي، وليس إلى الاختيار الشعبي. وفي العصر الحديث، لم تُلغَ هذه الرؤية بل أعيد إنتاجها من خلال نظرية ولاية الفقيه، التي تمنح الفقيه سلطة نيابية مطلقة عن الإمام الغائب المعصوم. وبهذا، تصبح منازعة الفقيه السياسي نوعا من منازعة للقداسة ذاتها.
حتى من يتبنّى الطرح العلماني ضمن الأوساط الشيعية، غالبا ما لا يطالب بدولة مدنية خالصة، بل بدولة تحفظ له الامتيازات الطائفية وتعترف بالهُوّية المذهبية كمصدر من مصادر الشرعية السياسية. فتتحوّل الدولة المدنية في هذا السياق إلى مجرّد غطاء لفظي لهيمنة طائفية، لا وسيلة لتحقيق العدل والمساواة بين المواطنين. وهذا يؤدّي إلى إفراغ المفهوم من مضمونه الحقيقي، إذ تصبح الدولة مدنية في مظهرها، طائفية في جوهرها.
المواطنة الجامعة وتحدّي الهويّات الطائفية.
المواطنة الحقيقية تقوم على الانتماء إلى كيان سياسي مشترك، يُعلي من قيم المساواة في الحقوق والواجبات، من دون اعتبار لخلفيات دينية أو ثقافية أو عرقية. لكن في بعض البيئات الطائفية –كما هو الحال في العراق ولبنان– تظلّ الهوية الطائفية هي المركز والمحور. في هذه السياقات، نجد أنّ الشيعي، سواء كان متديّنا أو علمانيا، يُقدّم الانتماء للطائفة على الانتماء للدولة. ويترتّب على ذلك تقويض لجوهر المواطنة، حيث تنهار فكرة الولاء للدولة الجامعة، لتحلّ محلّها ثقافة المحاصصة والولاءات المذهبية.
وحين تتضخّم هذه الهويّات الضيّقة، تتآكل أسس الدولة المدنية، ويغيب مبدأ التكافؤ بين المواطنين، ويصبح الحكم مجرّد توزيع نفوذ بين طوائف لا يجمعها مشروع سياسي وطني مشترك، بل مصالح ضيّقة وتنافس على السلطة، لا على خدمة الصالح العام.
ولذلك، فالممارسة الطائفية التي تغلّب الولاء المذهبي على الولاء الوطني، لم تُنتج سوى المزيد من الانقسام والتنازع، وهو ما أظهرته التجربة اللبنانية والعراقية بجلاء، حيث أفضت المحاصصة إلى شلل سياسي دائم، وغياب للعدالة الاجتماعية، وتغوّل للطوائف على حساب الدولة، وتعطيل لموافيق المساءلة والمحاسبة. ولا يمكن تجاوز هذا المأزق إلا بإعادة الاعتبار إلى الدولة بوصفها إطارا جامعا لكلّ المواطنين، وبترسيخ ثقافة المواطنة والهُوّية الوطنية الجامعة، من دون التنازل عن الهُوّيات الثقافية والدينية الخاصّة، لكن بشرط أن تكون هذه الهُوّيات جزءا من نسيج وطني لا مشاريع انفصالية متنافرة.
إنّ مشروع الدولة المدنية في المجتمعات المتعدّدة طائفيا لا يمكن أن ينجح إلّا إذا استند إلى مبدأ واضح: لا طائفة فوق الدولة، ولا دولة من دون طوائف. أي أنّه لا يجوز لطائفة أن تحتكر السلطة وتُفرغ الدولة من معناها، كما لا يمكن إقامة دولة عادلة من دون احترام للهويات المتنوّعة في إطار المواطنة المشتركة.
- مصادر التشريع عند أهل السنة : تقوم المرجعية السنية على أربعة مصادر أساسية.
- 1- القرآن الكريم : باعتباره النص القطعي الثبوت والدلالة؛
- 2- السنة النبوية الصحيحة : بضوابط الرواية والدراية؛
- 3- الإجماع : كميفاق لضبط الفهم الجماعي للنصوص؛
- 4- القياس : باعتباره أداة عقلية لاجتهاد معتمد.
وتتم العملية الاجتهادية في هذه المنظومة ضمن حدود النصّ، ولا يُقبل أي قول يُنسب إلى الصحابة أو الأئمة أو العلماء إلا ضمن هذا الإطار.
- المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية : تُوسّع الطائفة الإمامية مصادرها التشريعية لتشمل.
- 1- القرآن بتفسير خاص عبر روايات الأئمة؛
- 2- السنّة، ولكن المحصورة بروايات أهل بيت علي؛
- 3- قول الإمام المعصوم، وهو في نظرهم حجة مطلقة؛
- 4- العقل بشروط تختلف عن العقل الأصولي السنّي؛
- 5- الإجماع بشرط اشتماله على قول المعصوم.
وترى الطائفة أن الإمامة أصل من أصول الدين، وأن الأئمة الاثني عشر معصومون، وأن آخرهم، وهو الإمام المهدي، ما يزال حيّا غائبا، ومصادر التشريع تظلّ مفتوحة عبر ما يُنسب إليه من توقيعات وأحاديث، حتّى مع انقطاع وجوده الظاهر.
- المفارقة المرجعية : تكمن الإشكالية في كون الشيعة الإمامية تنطلق من مرجعية ما فوق تاريخية، غير قابلة للنقد، وتعتبر أقوال الأئمة المعصومين مساوية لأحكام الشريعة، بل فوق أقوال الصحابة والتابعين، مما يفتح الباب أمام تفسيرات وتأويلات باطنية تتعارض مع النصوص القطعية. كما أنّ فكرة التقية تجعل الموقف العقدي غير واضح، وتُصعّب إمكان الحوار العقدي الصريح، والحقيقة أن اعتماد مبدأ التقية جاء لتقويض الحكم الإسلامي وإحلال المشروع الباطني محلّه، لأنّ الإسلام يقرّ بالتعدّد الديني والمذهبي، وحتّى الطوائف المنغلقة كاليهود والتي تعيش في أحياء خاصّة كالغيتو تقبلها الدولة الإسلامية ضمن نسيجها الاجتماعي وتحترم خصوصيتها الدينية، لكن الطائفة التي تتستّر بالتقيّة وبالتدين الزائف، وتندسّ ضمن المجتمع السني الذي يمثّل الأكثرية من الناحية الاجتماعية والسياسية إنما تريد أن تحقّق مشروعا سرّيا، والغريب في الأمر أنّ العداء الشيعي يوجّه أكثر إلى الذين يكشفون نشاطهم السياسي وليس لمن يكشف عقائدهم المنحرّفة.
- الأثر على وحدة الأمة : أدّى هذا الاختلاف المرجعي إلى خلل في بناء الهوية الجامعة، حيث لم يعد بالإمكان الاتفاق على أرضية عقدية أو تشريعية مشتركة. بل تحوّلت المرجعية الشيعية إلى مصدر للتوتر، لا سيّما حين ترتبط بمشاريع سياسية توسعية (كما في النموذج الإيراني). كما أنّ تمجيد الصراع التاريخي واستحضار طقوسه (مثل كربلاء وعاشوراء) يُعيد إنتاج ثنائيات العداء داخل الجسد الإسلامي.
- الإشكال السياسي والاجتماعي : حين تدخل الطوائف التي تحمل مرجعيات متباينة إلى الفضاء السياسي، من دون تحديد ضوابط مرجعية ودستورية جامعة، تتحوّل الدولة إلى ساحة تناحر مذهبي، وتنتقل المرجعية من كونها عقدية إلى مشروع سياسي مغلق. وهو ما رأيناه في العراق وسوريا ولبنان، حيث اُستُعملت المرجعية الطائفية كوسيلة للاستحواذ على الحكم وإقصاء المكوّن السنّي، بل ونقض فكرة المواطنة ذاتها.
إنّ وحدة الأمّة لا يمكن أن تقوم على المجاملات الفكرية أو التعايش الشكلي، بل لا بدّ من العودة إلى مرجعية الوحي الصافية، والتمييز بين العقيدة والسياسة، وبين حرّية التدين وتهديد كيان الأمّة. ولا يمكن بناء دولة عادلة ما لم تُحسم المرجعية، وتُضبط حدود التعدد، وتُحمى الأمّة من مشاريع الطوائف المغلقة التي تعيد إنتاج التاريخ كأداة للصراع.
الطوائف الحدّية ومفهوم الخروج العقدي.
تعتبر القديانية طائفة أجمع العلماء على كفرهم المخرج من الإسلام، على الرغم من أنّها تحتفظ بكثير من مظاهر الإسلام: الصلاة، الصيام، الصدقة، الطهارة، القرآن، إلخ، ولا تطعن في الصحابة، ولا تدعو إلى الإمامة أو المهدوية بمعناها الشيعي، ولا تقول بتحريف القرآن. وقد كانت المسألة الجوهرية في تكفيرهم هي النبوّة، فالقاديانية تقول بأنّ مرزا غلام أحمد نبي يوحى إليه من الله –حتى وإن وصفوا نبوّته بأنها ظلّية أو تحتية– وهذا نقض صريح لقوله تعالى: وخاتم النبيين، بل إنّ مرزا غلام أحمد نفسه كتب في كتبه ما يؤكّد أنه نبي جديد وأنّ من لا يؤمن به كافر حتّى لو نطق الشهادتين. لذلك صدر قرار مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي بكفرهم وخروجهم عن الإسلام. ولكن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو، لماذا لم يكفّر العلماء المسلمون اليوم الشيعة الإمامية؟
• من الثوابت التي أجمع عليها المسلمون، بمذاهبهم الفقهية والعقدية المختلفة، أنّ القرآن الكريم محفوظ من التحريف، وأنّ الإيمان بتمامه وصيانته شرط من شروط العقيدة الإسلامية. وقد اتّفقت جماعة المسلمين –أي أهل السنة– على أنّ القول بتحريف القرآن خروج صريح عن الملّة، لأنّه تكذيب بنصّ قرآني قطعي في قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر، 9).
غير أنّ أدبيات كبار أئمة الشيعة، لا سيّما في العصور المتأخّرة، كشفت عن نزعة تحريفية واضحة، ليس أقلّها ما ورد في كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب للشيخ النوري الطبرسي، أحد أعلام الطائفة الإثني عشرية، والذي حظي بتقدير كبير حتى دفن إلى جوار قبر علي بن أبي طالب في النجف. هذا يعكس مدى حضور هذا الرأي في الوعي الجمعي للطائفة، بل إنّ تحريف القرآن أجمعت عليه كلّ طوائف الشيعة، وإن حاول بعض المعاصرين التنصّل منه. وفي هذا الشأن يقول أبرز وجوه الطائفة في نهاية القرن الرابع وبداية الخامس الهجريين، وهو الشيخ المفيد (توفي 413) الذي يقرّر ما أجمعت عليه الطائفة إلى زمنه بقوله: (1) واتّفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في ذلك من جهة السمع اختلاف. (2) واتّفقوا على إطلاق لفظ البَداء في وصف الله تعالى، وأنّ ذلك من جهة السمع دون القياس. (3) واتفقوا على أنّ أئمة الضلال (يعني بهم الخلفاء الثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعثمان) خالفوا في كثير من تأليف القرآن (أي حرّفوه) وعدّلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلّم.
لكن الأثر العقدي لهذا القول مركزي جدّا، إذ إنّ تحريف القرآن يعني نسف المرجع الأعلى الذي يجتمع عليه المسلمون، ومن ثمّ فمصدر التشريع ذاته ينقسم، بل يتفاصل.
وبناء على ذلك، يمكن القول إنّ الطوائف التي تتبنّى هذه العقيدة –كالإثني عشرية أو ما سُمِّي لاحقا بالنصيرية أو الإسماعيلية أو الغُلاة– تأخذ مسارا شبيها بالطوائف التي أجمع المسلمون على خروجها من الإسلام كالقاديانية والبابية والبهائية، وكلّها طوائف ظهرت بمزاعم تستند إلى مرجعيات موازية أو متجاوزة للقرآن والسنّة، وهو ما يُسقِط عنها صفة الانتماء العقدي للأمّة الإسلامية.
• إنّ الاختلاف بين جماعة المسلمين والشيعة الإمامية في باب مصادر التشريع هو اختلاف جوهري وعميق، يمتدّ إلى بِنْية الدين ذاته، ولا يقتصر على مسائل فقهية فرعية. فالمرجعية السنّية تقوم على أربعة أصول محكمة: القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والإجماع، والقياس، وكلّها مضبوطة بضوابط النقل والعقل المنضبط. ويُعتبر الخروج عن هذه الأصول خروجا عن دائرة الإسلام عند جمهور علماء السنّة، إذ لا يُقبل مصدر للتشريع إلّا أن يكون مستندا إلى نصٍّ قطعي الثبوت والدلالة أو إلى اجتهاد مضبوط بأصوله الشرعية. ومن هنا فإنّ أي ادعاء بوجود مصادر أخرى، كقول المعصوم أو التوقيعات المنسوبة إلى غائب عن الأنظار، يعدّ في ميزان أهل السنّة بدعة كبرى تُخرج صاحبها عن الإسلام الصحيح.
أمّا الشيعة الإمامية، فقد وسّعوا دائرة مصادر التشريع لتشمل نصوصا منسوبة إلى أئمتهم الاثني عشر الذين يعتقدون بعصمتهم، وجعلوا للعقل مقاما تشريعيا بشروط تختلف عن العقل الأصولي عند جماعة المسلمين، وأدخلوا الإجماع بشرط اشتماله على قول المعصوم. وهذا التوسّع يجعل من المرجعية الدينية عند الشيعة منظومة مغايرة للمرجعية السنّية، مغايَرةً أصولية تمسّ طبيعة الوحي، ومكانة النصّ، وسلطة الاجتهاد. فالإمامة عند الشيعة أصل من أصول الدين، بينما هي عند أهل السنة مسألة فقهية فرعية، لا ترقى إلى أصول الاعتقاد.
لهذا، لا يمكن التوفيق بين المنظومتين من دون نقضٍ لإحدى البِنْيتين العَقَدِيتين؛ فهما مختلفتان اختلافا أصوليا جِذْرانيا، ولا يجتمعان في منظومة دينية واحدة. فالإسلام الذي عليه جمهور المسلمين، والمستند إلى القرآن والسنّة الصحيحة وحدهما، لا يلتقي مع دين يقوم على مصادر أخرى غير مقبولة في ميزان الوحي والنقل والعقل الشرعي.
• من الأمور الأخرى المتعلّقة بتكفير الشيعة الإمامية، أنّهم يجعلون الإمامة أعلى مرتبة من النبوّة. بل يرون أنّ الإمام: معصوم من الخطأ والنسيان؛ ويوحى إليه إلهاما، وإن لم يسمّوه وحيا تشريعيا؛ وهو أعلم من جميع البشر بمن فيهم الأنبياء ما عدا الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقولون؛ وله القدرة على تدبير الكون بإذن الله، وله علم الغيب الكامل، وأن الجنة والنار بيده، وعبارة بإذن الله التي يضيفها الشيعة لقدرة أئمّتهم المطلقة في تدبير الكون فمن أجل خداع البُلْه، فهي لا تعني سوى أنّ الله قد تنازل لعلي وأبنائه عن كلّ صفاته ليحكموا نيابة عنه، والله تعالى يقول: ولا يشرك في حكمه أحدا (الكهف، 26). بل في كثير من النصوص التي ينقلها الكليني والطوسي والمجلسي وغيرهم: ما بعث الله نبيا إلّا وأمره بالولاية لعلي، ولولا عليّ لما خلق الله السماوات والأرض. وهذا ليس رأي بعض الغلاة فقط، بل هو ركن أساسي عند الشيعة الإمامية. يقول الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية: وإنّ من ضرورات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبي مرسل. كما أضاف في موضع آخر من الكتاب: للإمام مقام محمود، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون.
إذا، لماذا لا يُكفَّر الشيعة كما كُفِّرت القاديانية؟ مثلا، يقول ابن تيمية عن الرافضة: فيهم كفر وزندقة، ولكن لا نحكم على جميعهم بالكفر؛ بل يُنظر إلى ما يقول به الشخص بعينه. هنا تكمُن المفارقة، وهي أنّ الشيعة تفادوا الصدمة المباشرة مع القرآن –كما فعلت القاديانية في قولها بنبوّة جديدة– لكنهم أدخلوا الجوهر نفسه من باب آخر وهو الإمام المعصوم، فصار أعظم من نبي في كل شيء ما عدا الاسم، وقالوا أيضا بحكم علي المطلق في الكون ولكن من وراء قدرة الله. بل تعظيم الأئمّة عندهم، وصل حدّ رفعهم إلى مراتب تفوق مراتب الأنبياء والملائكة، ومنحهم سلطات تكوينية على الكون وكلّه وعلى ذرّاته. ومع ذلك، فإنّ كثيرا من أهل السنّة لا يدركون خطورة هذه العقيدة لأنّ:
- - الشيعة لا يصرّحون بها عند المخالفين، بل يقولون ما يوحي بالتقارب كالتقريب بين المذاهب؛
- - كثير من السنّة لا يطّلع على المصادر الشيعية الأصلية مثل: الكافي والتهذيب وبحار الأنوار.
- - علماء السنّة في الغالب يتوقّفون في التكفير العام، ويكتفون بوصفهم أهل بدعة وضلال ببلاهة منقطعة النظير، بزعم مخافة التعميم أو الفتنة.
- - عقيدة الإمامة الإمامية أشد خطرا في حقيقتها من عقيدة النبوة الأحمدية؛
- - لكنها أذكى تمويها وأخف وقعا ظاهريا، مما جعل كثيرا من الناس يتهاون بها؛
وخلاصة القول في هذا الشأن، إنّ التهاون الواسع في أوساط أهل السنّة في الحكم على الشيعة الإمامية بالكفر –على الرغم من مخالفتهم الصريحة في أصول العقيدة– ظاهرة متشابكة الأسباب. فإلى جانب البعد العقدي الذي يُعلّق الحكم بالكفر على التأويل والشبهة، هناك عوامل أخرى أكثر تأثيرا في يَوْع الجمهور السنّي، منها:
• أنّ المسلمين لا يمتلكون هيئة سياسية جامعة منبثقة من عقيدتهم ودينهم، بحيث تكون لها سلطة تفرضها على المسلمين جميعا، فأغلب المجامع الفقهية منضوية تحت حكومات علمانية، ربّما هي أشد كفرا من الشيعة الرافضة أنفسهم.
• وكذلك الوجود التاريخي القديم للشيعة في المجتمع المسلم، الأمر الذي جعلهم يُنظر إليهم كطائفة من المسلمين لا كدين مستقلّ، بخلاف القاديانية التي نشأت حديثا واصطدمت منذ ولادتها بالنصوص القرآنية الصريحة في ختم النبوة.
• كما أنّ انتساب الشيعة الإمامية إلى علي بن أبي طالب منحهم في الوعي السنّي قدرا من الشرعية العاطفية –لا سيّما بعد أن قرّر أحمد بن حنبل صحّة خلافته ورجّحها– جعلت كثيرا من السنّة يتبنّون ضمنيا الرؤية الشيعية للتاريخ من دون وعي، بحيث صار الولاء لعلي هو المعيار الوحيد للحقّ والباطل، وغُيّبت بذلك المبادئ القرآنية الكبرى التي تزن الرجال بالأعمال لا بالأنساب ولا بالمكانة القَبلية. وقد تسربت هذه النظرة حتى إلى مناهج الفقهاء، فحين تُدرَس موقعة الجمل أو صفين، نجد أن الزبير وطلحة وعائشة ومعاوية يُتَناولون على أنهم بغاة في مقابل علي، وفق تصنيف فقهي أصبح سائدا، وهو تصنيف –وإن بُني على اجتهاد– إلّا أنّه يتقاطع مع السردية الشيعية التي ترسّخ فكرة أن خصوم علي كانوا خارجين عن العدل، وهذا يعزّز في يوع الكثير من السنّة القبول التلقائي بالرواية الشيعية من دون التنبّه لانعكاساتها العقدية الخطيرة.
ويمكن أن نختصر القول بأن نقول إنّ عامة أهل السنّة منذ الدولة العباسية إلى يوم هم في الأصل مسلمون متشيّعون. بل إنّ لفظ السنّة نفسه الذي كان يطلق في الأساس على هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، قد أعيد توظيفه في زمن الدولة العبّاسية، من أجل التميّز عن العلويين وضمّ بقية المسلمين إليهم، فالاقتتال الذي وقع في البيت الهاشمي بين العبّاسيين والعلويين دفع العبّاسيين إلى العودة إلى تبني آراء جماعة المسلمين، في فضل أبي بكر وعمر، لكنّها رفضت أن لا يوصف علي بأنّه ليس خليفة شرعيا، بل اعتبره العباسيون أفضل من عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي يطعنون فيه، بل لم يكن حبس الإمام مالك وضربه وخلع كتفه سوى لأنّه فضّل عثمان عن علي، لذلك لفظ السنّة وضعه العباسيون لأنفسهم ليتميّزوا به عن الشيعة العلوية، فعليه فإنّ كلّ سنّي اليوم ما هو في حقيقة أمره إلّا شيعي عبّاسي، والفكر الديني السنّي اليوم ما هو إلّا التراث الديني للدولة العباسية الشيعية بما فيه كلّ الفقه الحنبلي الكوفي والسلفي والتاريخ والإسلامي.
• كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يضع في كلّ مرحلة من مراحل الدعوة معايير واضحة لتحديد هُوّية المسلم وتعريف الإسلام. ففي بداية الرسالة، حيث كان المسلمون يقابلون مشركي العرب الوثنيين، أكّد الرسول عليه الصلاة والسلام أنّ من قال: لا إله إلا الله خالصا أو صادقا من قلبه دخل الجنة؛ وجاءت بذلك أحاديث كثيرة تدلّ على الاكتفاء بإقرار التوحيد للدخول في الإسلام. ومع تحوّل الصراع إلى مواجهة مسلّحة، حين شرعت القبائل الوثنية في قتال المسلمين ومحاولة استئصال دينهم، تغيّر الموقف. فقد أقرّ الإسلام آنذاك بحرية الوثنية في البقاء، غير أنّه حين صارت حربا على الإسلام، تقرّر قتال الوثنيين دفاعا عن الدين. قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». وفي رواية أخرى: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله».
ثمّ مع ظهور مدّعي النبوة، كمسيلمة الكذاب، اختلف معيار الإسلام، وذلك لضمّ مجموعات كبيرة ما زالت على دين الإسلام، إلّا أنّه يمكن أن يلتبس على المسلمين أمر انتمائهم الديني لوجودهم بين قبائل مرتدّة. فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» (رواه البخاري).
غير أنّ الفقهاء استندوا إلى ظاهر هذه النصوص في عدم تكفير الشيعة، متجاهلين سياقات الأحاديث والظروف التي قيلت فيها، فتشكل لديهم فهم مغلق للمعايير، أصبح عائقًا أمام الحكم الصحيح على الفرق المخالفة. وعلى الرغم من أنّ الشيعة يكفّرون جمهور المسلمين، فإنّ الفقهاء يمتنعون عن الحكم عليهم بمقتضى ظاهر الشهادتين. والعجيب أنّ الاستناد إلى مبدأ هذه الفكرة يثبت حتّى إيمان إبليس نفسه، فهو يؤمن بوحدانية الله ويصدّق برسله، بل ويحلف بعزة الله ليغوين المؤمنين. وهو ما يكشف عن سوء تقدير وجمود في الاجتهاد الفقهي عند التعامل مع الانحرافات العقدية.
وبعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، بقيت جماعة المسلمين هي الدالة على الإسلام؛ فمن كان مع جماعتهم، ورضي ببيعة خلفائهم، فهو مسلم، وما طبقوه هو الإسلام الحقّ، وقد أكّد القرآن على هذا المبدأ وهو وجوب التزام جماعة المسلمين في قوله تعالى: ومن يشاقق الرسولَ من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرا (النساء، 115). غير أنّ شرخا كبيرا حدث في جماعة المسلمين عندما أعلن علي بن أبي طالب نفسه خليفة من دون مشورة المسلمين، وقد كان هذا الشرخ بداية الانقسام السياسي والديني، حتّى إذا بايع حسن بن علي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعا، عاد المسلمون إلى الاجتماع مرّة أخرى، وسُمّي ذلك العام بعام الجماعة.
لكن هذا التواصل السياسي الجماعي ما لبث أن انقطع بزوال الخلافة الأموية وقيام الدولة العبّاسية ذات النزعة الشيعية، فانفرط عقد الجماعة المسلمة سياسيا، وحلّ مكانها التشيع العباسي، وإن بقيت الأحكام الفقهية محفوظة إلى حدّ كبير من التشويه العقدي، وهذا ما حفظ للمسلمين تواصلهم الديني من جانب آخر. غير أنّ التأريخ الإسلامي تعرّض لتحريف كبير، إذ أصبح الطعن في رجالات الإسلام الذين جاهدوا الباطنية وأعداء العقيدة يعدّ من الباقيات الصالحات. وهكذا، فإنّ فقدان الوعي بالسياقات التاريخية والنصوص المؤسِّسة لهوّية المسلمين قد أدّى إلى تشويه عميق في فهم طبيعة الانقسامات، وغاب عن كثير من المسلمين أنّ الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم هو الإسلام الذي جسدته جماعة الصحابة وأجمع عليه المسلمون.
مفارقة الاعتراف الديني بين السنّة والشيعة.
من أغرب المفارقات في مسألة الأقلّيات الطائفية في العالم الإسلامي، تلك التي تتعلّق بمفهوم الاعتراف المتبادل في الإيمان. فعلى الرغم من أنّ أهل السنّة –وهم الغالبية العظمى في الأمّة الإسلامية– يميلون غالبا إلى عدم تكفير الشيعة والاعتراف بهم ضمن الدائرة الإسلامية العامّة، إلّا أنّ الطوائف الشيعية الكبرى، لا سيما الإثني عشرية، كثيرا ما تتبنّى موقفا مغايرا جِذْرانِيا، حيث تُخرِج عموم أهل السنّة من دائرة الإيمان الحقّ، بل وتكفّرهم صراحة أو ضمنا لعدم اعترافهم بالأئمة، أو لاعتبارهم أنّ الخلفاء الراشدين أفضل من عليّ، أو لعدم إيمانهم بعقيدة العصمة والإمامة المغلقة.
وهنا تبرز مفارقة منطقية ودينية في غاية الدقّة : «إذا كان الشيعي يرى السنّي كافرا، بينما السنّي يرى الشيعي مسلما، فإنّ السنّي –من حيث لا يدري– يشهد للمُكفِّر له بأنّه مؤمن، وهذا في منطق العقيدة تناقض واضح: إذ كيف يكون مؤمنا من يكفّر أصل إيمانك؟ بعبارة أخرى فإنّ شهادة السنّي للشيعي بالإيمان هي شهادة السنّي على نفسه بالكفر». لذلك، فكلّ من كفّر جمهور المسلمين، فهو كافر بالضرورة.
إن هذه المفارقة تُعيدنا إلى ما يسميه علم الاجتماع الديني بالتغاظر الاعترافي asymmetrical recognition أي عدم التماثل في الاعتراف، وهي حالة يُبدي فيها أحد الأطراف تسامحا مفرطا أو انفتاحا في مقابل رفض كامل من الطرف الآخر. وهذا التَّعادي أي عدم المساواة في الاعتراف يُنتج تصدّعا في أسس التعايش، ويُضعف إمكانية بناء هُوّية جامعة. ولا تقف المفارقة عند حدّ التناقض النظري، بل تنتقل إلى الفعل الاجتماعي والسياسي. ففي الوقت الذي يُدمَج فيه الشيعة كمواطنين في المجتمعات المسلمة السنّية، وتُحفظ لهم الحرّيات الدينية –بل ويُقرّبون إلى مواقع السلطة– نجد أنّ المجتمعات التي تهيمن عليها الطوائف الباطنية، غالبا ما تمارس الإقصاء والعزل والاستئصال ضدّ السنّة، كما حدث في العراق بعد 2003، وفي سوريا في ظلّ النظام النصيري، وفي اليمن مع صعود الحوثيين.
إنّ هذه الازدواجية –بين من يوسّع مفهوم الأمّة، ومن يضيّقه إلى حدّ الحصرية الطائفية– تُشكّل تحدّيا بِنْيويا أمام إمكان تحقّق وحدة إسلامية حقيقية، لأنّها تضرب في الصميم مفهوم الأمّة ذاته، وتحوّله من رابطة إيمانية مفتوحة إلى هُوّية مغلقة قائمة على الولاء الطائفي والتاريخ المُذهَّن أي المؤدلج.
من هنا، يبرز طرح عملي واضح :
إذا صُنِّفت هذه الطوائف كالإمامية والنصيرية والإسماعيلية باعتبارها أديانا أو طوائف مستقلّة غير داخلة في دائرة الإسلام، فإنّ الإشكال العقدي والاجتماعي والسياسي معها يُحلّ جِذْرانيا، إذ تُعامَل كما تُعامل الأقلّيات الدينية غير الإسلامية –كالمسيحيين واليهود– من دون التباس في الهُوّية الدينية أو منافسة على الشرعية العقدية. والتجربة التاريخية تشهد على أنّ هذه الأقلّيات غير الإسلامية كثيرا ما أبدت ولاءً وطنيا واستقرارا سياسيا، وشاركت بفاعلية في مؤسّسات الدولة من دون نزعة انقلابية أو حنين طائفي. بل إنّ بعض الشخصيات من هذه الأقلّيات، كطارق عزيز في العراق، أظهرت درجة من الالتزام بالدولة الوطنية تفوق ما أظهره أبناء الطوائف المتنازعة على الشرعية الإسلامية.
في ضوء ذلك، فكّ الاشتباك العقدي بين هذه الطوائف والدين الإسلامي الأمّ، يمكن أن يُشكّل أساسا لاستقرار اجتماعي وسياسي جديد، يقوم على الاعتراف الواضح بالتمايز، من دون محاولة فرض اندماج ديني قسري أو تغليف سياسي زائف بوحدة لا أساس لها.
الحرّيات الدينية في الإسلام : إطار جامع للتعدّد لا للتشويش.
الإسلام –في جوهره– لا يُعاني من إشكال تجاه التعدّد الديني متى ما كان هذا التعدّد واضحا في انتمائه وموقفه من الإسلام. فالقرآن الكريم أقرّ بوجود طوائف دينية متعدّدة، كاليهود والنصارى والصابئة والمجوس، بل وحتّى المشركين، وأقرّ لهم بحرّية العقيدة والعبادة ما لم يعتدوا أو يُحاربوا. وفي قوله تعالى: لكم دينكم ولي دين (الكافرون، 6)، قاعدة تأسيسية لما يمكن تسميته بالحدّ الأدنى من الحرّية الدينية الذي يحفظ المجتمع من الفتنة العقدية ويضمن الحقوق المدنية.
ولعلّ أرقى صور هذا التسامح تجلت في الصحيفة التي كتبها الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة، والتي تُعدّ وثيقة مدنية تنظم العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة، وتقرّ للطرفين بحقوقهم الدينية والقضائية والمالية في ظلّ دولة واحدة. فكانت بذلك أوّل وثيقة تعترف بمفهوم المواطنة المتعدّدة الأديان ضمن كيان سياسي واحد.
غير أنّ هذه الحرّيات تفترض الوضوح في الهُوّية والانتماء. فحين تختلط المرجعية، وتصبح هناك طائفة تدّعي الإسلام لكنّها تُحوِّر مصادره وتُدخل ما ليس منه في التشريع، ثم تطالب بالمساواة في تمثيل الإسلام، فإنّها تُشوّش الهُوّية الجامعة، وتفتح الباب لنزاعات دينية–سياسية تهدّد كيان الأمّة. ومن هنا تبرز أهمية التعامل مع الطوائف التي تحمل عقائد متمايزة –كالإثني عشرية أو غيرها من الغلاة– على أساس الاعتراف بخصوصيتها واستقلالها العقدي، لا دمجها قسرا في الهُوّية الإسلامية. وهذا لا يعني اضطهادها أو نزع حقوقها، بل العكس:
«الإسلام يكفل للطوائف المستقلّة دينيا الحرّية الكاملة في ممارسة شعائرها، وتنظيم مؤسّساتها، بل وتولّي المناصب في الدولة المدنية، ما دامت لا تنازع على المرجعية الإسلامية أو تسعى لتقويض هُوّية الأمّة الدينية».
تماما كما حاز النصارى مناصب وزارية ومؤسّسية في العديد من الدول الإسلامية عبر التاريخ، وكانت لهم مدارسهم وكنائسهم وأوقافهم، كذلك يمكن للطوائف الشيعية أو الإسماعيلية أو غيرها أن تُمارس حرّيتها ضمن إطار مدني واضح، من دون فرض مشروعها العقدي على باقي الأمّة. وبذلك نكون أمام حلّ متوازن:
- • إقرار بالحريات الدينية والطائفية ضمن الدولة؛
- • وضوح في الهُوّية الإسلامية لأغلبية الأمّة المستندة للقرآن والسنة؛
- • فصل المرجعيات العقدية من دون اضطرار للصراع أو الإقصاء.
هذا النموذج الإسلامي لا يُفرّط في ثوابته، ولا يظلم مخالفيه، بل يحقّق العدالة على أساس الانتماء الصريح والموقف الواضح من العقيدة.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الدعوة موجّهة في الأساس إلى المسلمين السنّة، دون غيرهم، لأنّ الطائفة الشيعية الاثني عشرية قد حسمت موقفها العقدي منذ قرون في نفي الإسلام عن جمهور المسلمين من أهل السنّة، بل وتصنيفهم ضمن الناصبة وأهل الجور، بحسب ما تقرّره كتبها الأصلية كالكافي للكليني وبحار الأنوار للمجلسي. وهي بذلك تنطلق من رؤية مذهبية ترى نفسها الفرقة الناجية الوحيدة، وتعتبر غيرها خارجا عن الدين الحقّ، وهو ما يُظهر انسجاما كاملا بين عقيدتها ومواقف علي بن أبي طالب السياسية والتاريخية. يتجلّى هذا التماهي العقائدي بوضوح مع اعتقاد علي بأحقّيته بالخلافة، حيث جاء في مبايعته لأبي بكر قوله: إنّا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ولكنّك استبددت علينا بالأمر وكنّا نحن نرى لنا حقّا لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم)، ثم استدعاء الطائفة لأحداث الفتنة الكبرى، مثل موقعة الجمل وصفّين، بوصفها لحظات حاسمة تُبنى عليها مواقف عقدية ثابتة.
يحتوي نهج البلاغة على خطب تحث على الجهاد وتتحدّث عن ثواب المجاهد، والمعروف أنّ علي بن أبي طالب لم يشارك في الفتوحات، ولا أبناؤه، وكلّ حروبه كانت لقتال المسلمين، وبسبب تعقيدات شرعية حكمه فقد وجد حاجة دائمة إلى الحثّ على الجهاد ضدّ الكافرين المرتدّين والتذكير بخطورته كفريضة واجبة الأداء على أتباعه. وكان مفهوما لدى سامعيه أنّه يقصد بهذه الفريضة مقاتلة الصحابة وأبنائهم والتابعين، مثل طلحة والزبير ومعاوية وعائشة أم المؤمنين، ففي تلك الوقائع، عزل علي بن أبي طالب من ولاّه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وقاتل جماعة الصحابة والتابعين الذين طالبوا بالقصاص من قتلة عثمان بن عفان وحرّض على قتالهم وسار إليهم بالجيوش، ووقعت بينهم معارك حاسمة، منها الجمل (36) وصفّين (37). هذه الوقائع لا يمكن أن تُفهم في التراث الشيعي من منظور سياسي، بل لا بدّ والحال هذه أن يُسقط عليها تأويل لاهوتي، بحيث أصبح قتال عليّ للصحابة والتابعين مبرّرا للبراءة منهم ولعنهم وتكفيرهم، كما ورد في روايات متعدّدة مثل ما نقله الكشّي في رجاله.
وفي هذا السياق، يُفهم الموقف العدائي تجاه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، في التراث الشيعي، حيث استُغلّ موقفها في موقعة الجمل —التي كانت تهدف فيها إلى المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان— لتبرير الطعن فيها، وذلك على الرغم من أنّ البيعة لعلي لم تكن قد نالت إجماع الصحابة، بل كان غالب من بايعه من قتلة عثمان، ممّا دفع الصحابة إلى المطالبة بتقديم القصاص قبل تثبيت أي سلطة سياسية جديدة. لذلك اعتبر قتال عليّ لها في الجمل سببا للطعن فيها، وهو ما تبنّاه العديد من كتّاب الطائفة، على الرغم من مكانتها القطعية عند جمهور المسلمين. وقد ورد في تفسير القمي روايات تطعن في نواياها وتربط ذلك بالصراع على السلطة وليس بالاختلاف في الاجتهاد.
وبناء على ما سبق، فإنّ الطائفة الاثني عشرية، بمرجعيتها اللاهوتية وموقفها التاريخي من أغلبية المسلمين، تخرج عن الإطار العقدي الذي يجمع بين أهل القبلة، لتندرج ضمن الطوائف الدينية المغايرة، التي ينبغي التعامل معها كما يُتعامل مع غيرها من الأقليات الدينية، مثل الطوائف المسيحية أو الصابئية أو غيرها، في إطار من العدل والمواطنة وحرّية المعتقد، من دون أن يقتضي ذلك دمجها قسريا ضمن هُوّية الإسلام السنّي التي ترفض تكفير عموم المسلمين.
في الختام، إنّ تحليل ظاهرة الأقليات في المجتمعات الإسلامية يُظهر أنّ بعض الطوائف ما تزال تعيش في زمن الصراعات القديمة، وتُعيد إنتاج الماضي كوسيلة لبناء هُوّيتها. وهذا النمط يختلف جِذْرانيا عن أنماط أخرى تعايشت بسلام داخل المجتمع المسلم. ومن منظور علم الاجتماع، فإنّ استقرار المجتمع مرهون بقدرة أفراده وجماعاته على تجاوز التاريخ الرمزي نحو بناء عقد اجتماعي حديث يقوم على المواطنة، لا على الهوّيات الفرعية. وتبقى الحاجة ماسّة إلى خطاب فكري واجتماعي جديد يعالج هذه الظواهر بعمق، ويكشف بنيتها النفسية والتاريخية، ويفكّك موافيق العداء الرمزي، من أجل مجتمع أكثر وعيا ووحدة.
- الكاتب : خضير شعبان
- التاريخ : 27\10\1446 الموافق له 26\04\2025