معجم المصطلحات الكبير
لُودْفِيك فْلِيك
الفكر

أحد العلماء البولنديين المتخصّصين في الحِياوة المجهرية التي عُرف بها أوّل مرّة، ثمّ عُرف لاحقا بدراسته لتاريخ العلوم ولنظرية المعرفة، وقد أهتم بدراسة العلم على اعتباره ظاهرة اجتماعية. أصدر في حياته كتابا واحدا في هذا الموضوع هو «خلق حقيقة علمية ونموّها»، سنة 1935م، طوّر فيه نظاما للفلسفة التاريخية وعلم اجتماع العلوم، وقد بيّن فيه «فليك» أنّ الإدراك أو المعرفة هي نشاط جماعي، ووصف فيه كيفية تواصل الجماعات العلمية، وكيفية ارتباط المعرفة داخل الجماعات العلمية مع المعرفة الخارجية التابعة لجماعات فكرية أخرى، كالأسرة والحزب والجماعات المحلّية، علاوة على ذلك، فقد قدّم نبذة عن تاريخ العلم، تتميّز بكونها متقطّعة، ليست كغيرها من الكتابات التي تستطرد في سلاسة وتتابع.

ولد «لودفيك فليك» في 11 يوليو 1896 في لفوف Lvov (لفيف Lviv حاليا)، كانت في ذلك الوقت تحت حكم النمسا-المجر، لعائلة من الحرفيين اليهود، كان رئيسا لمعمل المِجاوة (الحِياوة المجهرية) بمدينة لوفيف Lvov، توقف عن الدراسة الطبية في جامعة «جون كاسيمير» John Casimir بسبب الخدمة العسكرية، ثمّ عاد إلى الجامعة مرّة أخرى وتخرج في عام 1922م، وقد عمل في نهاية دراسته مع العالم الشهير «رودولف ويغل» Rudolf Weigl المتخصّص في وباء التيفوس، وفي عام 1923م، أسّس «فليك» مخبرا متخصّصا في التحاليل الطبّية ثمّ عمل مسؤولا عن صندوق Lvov Sick والمخابر المِجاوية والكيميائية في المستشفى العام.

عندما جاء الاحتلال الروسي لتلك المنطقة وأُلحقت لفوف بجمهورية أوكرانيا السوفياتية في عام 1939م، عُيّن «فليك» رئيسا لمخبر البلدية للنظافة وعلم الجراثيم، وفي 30 يونيو من عام 1941م، وقعت لفوف في أيدي الألمان، فأعاد الألمان توطين «فليك» وزوجته في الحي اليهودي في لفوف، حيث طوّر وأنتج لقاحا مضادا للتيفوس من بول المرضى، وقد استعمل أفراد عائلته لاختبار المصل، ولكن قبل أنّ تسنح له الفرصة لتجربة المصل على عدد كبير كما تقتضي الأساليب العلمية، قام الألمان بغلق المحتشد الذي جمعوا فيه اليهود، ثمّ نُقل مع عائلته إلى منطقة شركة الأدوية Laokoon وكُلّف بإنتاج لقاح ضد التيفوس للجنود الألمان. وأخيرا، رُحّل هو وزوجته وابنه إلى معسكر الاعتقال في «أوشفيتز» Auschwitz. في البداية، أُجبر على القيام بعمل بدني، ولكن بعد ذلك نُقل إلى مستشفى المعسكر مع مهمّة إجراء اختبارات جرثومية على السجناء، الذين كانوا جميعا يموتون بسبب التيفوس. أنتج فليك كمّية كبيرة من المصل من بول الجنود الألمان، وقد كان هذا المصل عقيما غير فعّال، فلم يَقِ من الإصابة من التيفوس، لكن «فليك» قام مع فريقه بإنتاج كمّية صغيرة من المصل الفعّال، ممّا أتاح لهم إقناع النازيين بأنّه هو نوع المصل نفسه الذي يعطونه للجنود الألمان، واحتفظوا بالمصل الفعّال لأنفسهم، ولعلاج سجناء معسكر «أوشفيتز»، ولقّحوا به أكبر عدد من نزلاء المحتشد، وقد حزن «فليك» لأنّه لم يتمكّن من تسجيل سجلاّت علمية وتوثيقها عن مدى فعّالية هذا اللقاح خوفا من النازيين، الذين ربّما اعتقد أنّهم كانوا سيلاحقون مرضاه.

عندما حُرّر محتشد الاعتقال «بوخنفالد» Buchenwald في أبريل 1945م، وجد «فليك» نفسه بعد شهر واحد مع زوجته وابنه في لفوف، التي أصبحت مرّة أخرى تابعة للاتحاد السوفيتي. لقد غادروا على عجل إلى بولندا، التي نُقلت أراضيها بقرار من الحلفاء مسافة 200 إقاس (كيلومتر) إلى الغرب. كانت الحكومة الشيوعية في بولندا تؤسّس جامعة «ماري كوري- سكلودوفسكا» Maria Curie-Skłodowska في لوبلين Lublin، وبما أن الألمان قتلوا العديد من العلماء البولنديين، فقد كان هناك ندرة في الأساتذة المؤهلين للتوظيف. في أكتوبر 1945م، أصبح «فليك» رئيسا لمعهد المِجاوة الطبّية في تلك الجامعة، وأصبح أستاذا متفرّغا في عام 1950م. وفي عام 1948م أدلى بشهادته في محاكمات «نورمبرغ» Nuremberg الشهيرة للأطباء الألمان، الذين أجروا تجارب جنائية على سجناء معسكرات الاعتقال. ثمّ هاجر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1957م، حيث حصل على وظيفة في معهد الأبحاث الحِياوية الإسرائيلي، وهناك توفي في 5 جوان من سنة 1961م.

الفكر الجماعي

عرّف «فليك» «الفكر الجماعي» thought collective أو «الجماعة الفكرية» على أنّها جماعة من الأفراد يتبادلون الأفكار فيما بينهم أو يحافظون على التفاعل الفكري. لا يتبنى أعضاء تلك الجماعة أساليب معينة للإدراك والتفكير فحسب، بل يقومون أيضا بتحويلها وباستمرار، وهذا التحوّل لا يحدث كثيرا «في عقولهم» بقدر ما يحدث في مَحاطهم الشخصي، من السهل ملاحظة هذه الظاهرة في الحياة اليومية. عندما تتحدث مجموعة من الأشخاص عن شيء مهم، فإنهم يبدؤون في الحديث عن أشياء لن تخطر ببالهم إذا كانوا بمفردهم، كما أنّ أي أحد ينتمي إلى جماعات أخرى لن يخبرهم بها، وهنا فقط ينشأ ما يُسمّيه «بالأسلوب الفكري» thought style، ويكون مميّزا لتلك الجماعة فقط، هناك أيضا «مزاج جماعي» collective mood معيّن، الأمر الذي يقوّي الروابط بين أعضاء المجموعة ويحثّهم على التصرف بطريقة معينة. بعض الجماعات تستمر لفترة وجيزة جدّا ربّما بقدر ما تستمرّ محادثة بين شخصين. أمّا عندما تعمل القوى الاجتماعية على ربط الناس لفترة طويلة، فإنّ جماعات فكرية تنشأ وتدوم لأجيال عديدة، تأخذ أشكالا مختلفة كالحركات الدينية أو التقاليد الشعبية أو الفن أو العلم. تعمل هذه الجماعات طويلة الأمد على إنشاء مؤسسات اجتماعية، وعلى إضافة أجيال أخرى قادمة إلى جماعات معيّنة، وتنظّم الطريقة التي يتمّ من خلالها الالتحاق بهذه المؤسّسات، مثل: النظم التعليمية، والطقوس الاجتماعية المصاحبة لقبول أعضاء جدد.

ينتمي جميع أعضاء المجموعات العرقية الصغيرة إلى الفكر الجماعي نفسه، الجميع يدرك ويفكر بالطريقة نفسها، تماما مثل كل شخص حينما يقوم بإجراءات واحدة أو متشابهة. يوجد داخل المجتمعات الأكثر تطورا العديد من المجموعات المتنوعة: الدينية، والفنّية، والعلمية، والتنجيمية، وأيضا تلك المتعلقة بالجَدِيلة (الموضة)، والسياسة، والاقتصاد، والطبّ، والشعوذة، والرياضة وما إلى ذلك. تضمّ الجماعات الفكرية فئتين أو دائرتين، دائرة باطنية مقصورة على فئة معيّنة من المتخصّصين، الذين يكونون على دراية كبيرة بمجال عملهم، ودائرة خارجية واسعة تضمّ جميع الأعضاء الذين هم تحت تأثير الأسلوب، لكنّهم لا يقومون بأي دور نشط في تشكيل هذا الأسلوب. أعضاء الفئة الأولى أو أعضاء الدائرة الباطنية هم الكهنة واللاهوتيون في الحالة الدينية؛ والفنّانون ونقّاد الفنّ في حالة الفنّ؛ والعلماء في حالة العلم وما إلى ذلك. أمّا الفئة الثانية أو الدائرة الخارجية المقابلة لتلك المجموعات، فهي: المؤمنون العاديون؛ وعشّاق الفن؛ ومدرسو الريزياء والكيمياء والحِياوة، وكذلك التُّبناء وجميع المهتمّين بالعلوم.

تتمتع فئة الدوائر الخارجية بإمكانية الوصول إلى أسلوب تفكير سليم فقط من خلال فئة الدوائر الباطنية، على سبيل المثال: من خلال الاستماع إلى خُطَبٍ يلقيها الكهنة والوعّاظ، أو قراءة الأدب الشعبي الذي يكتبه العلماء. يثق أعضاء الدوائر الخارجية ثقة كبيرة بأعضاء الفئة الأولى أو الدائرة الباطنية، كما أنّ المتخصّصين من أعضاء الدوائر الباطنية ليسوا مستقلّين عن أعضاء الدوائر الخارجية: هذا هو «الرأي العام» الذي يبرّر جهود المتخصّصين ويمنحهم حافزا لمواصلة عملهم.

ينتمي تقريبا جميع الناس في المجتمعات المعاصرة إلى الكثير من الجماعات الفكرية، على سبيل المثال، قد يكون العالِم أيضا عضوا في كنيسة معينة، أو في حزب سياسي أو نادي المتوقّلين (وهم متسلّقي الجبال). وفي العادة ما ينتمي الفرد الواحد إلى مجموعات فكرية بعيدة عن بعضها بعضا، بحيث لا ينشأ تضارب بين الأساليب الفكرية التي تتعايش فيه، وينتمي معظم الناس إلى دوائر خارجية؛ عدد قليل فقط منهم أصبحوا أعضاء في دائرة باطنية، وينتمي بعضهم بشكل متقطّع إلى أكثر من دائرة، كما ينتمي الجميع أيضا إلى مجموعة واسعة من «الحياة العامّة»، والتي تختلف أيضا من ثقافة إلى أخرى. يُميّز «فليك» داخل الدائرة الباطنية المجموعات الفرعية التالية: (1) الطليعة، وهم مجموعة العلماء الذين يعملون عمليا على مشكلة معينة، (2) الجسم الرئيسي، وهو المجتمع الرسمي، (3) مجموعة المتطرفين في أماكن أخرى. ويميز أيضا بين المِهْنيين وهم المتخصّصون بالمعنى الدقيق للكلمة والمتخصصون الأكثر عمومية.

المِزاج الجماعي

يرتبط أعضاء الفكر الجماعي بشكل طبيعي برابط معيّن، ويشعرون في الوقت نفسه بشعور التضامن الجماعي وذلك لكونهم رفقاء أو زملاء أو مؤمنين، ويكون في العادة هذا الشعور بالتضامن مصحوبا أيضا بالعداء تجاه الغرباء عنهم، أولئك الذين يعبدون آلهة أخرى، ويسترشدون بقيم أخرى، ويستعملون كلمات غريبة، الخ، فالقوة التي تحافظ على الجماعة وتوحّد أعضاءها مشتقّة أساسا من مجتمع المِزاج الجماعي. ينتج عن هذا المزاج الاستعداد لإدراك موجّه بشكل متماثل، وتقييم ما يتم إدراكه واستعماله، بعبارة أخرى أسلوب تفكير مشترك. هذه هي الحالة المزاجية الجماعية التي تحثّ أعضاء الجماعات على التضحية بأنفسهم من أجل الآخرين، وإحراق المعارضين على المحكّ. إنهم يجعلون العلماء يعملون من أجل التنوير العام، وفي الوقت نفسه، يثيرون الشعور بازدراء علماء التنجيم أو الخيميائيين.

يؤكد «فليك» أنه لا يوجد فكر يخلو من العواطف: «لا يوجد سوى اتفاق أو اختلاف بين المشاعر، والاتفاق الموحّد في عواطف المجتمع، هو في محتواه، والذي يسمى التحرر من العواطف»، العواطف لها طابع اجتماعي؛ فهي بالفعل مختبئة في لغة تستعملها جماعة ما. «لا تشير المصطلحات الفنية إلى شيء تحدده تعريفاتها فحسب، بل تشتمل أيضا على بعض السلطة الخاصّة، فهي ليست أسماء فحسب، بل هي أيضا شعارات»، ولديها «سحر فكري خاص»، وهذا هو السبب في أنّ أعضاء الدائرة الباطنية حالما يتقنون المصطلحات الصنعية فإنّه يتلبّسهم شعور بنشرها.

إذا كان موقع النخبة أقوى من موقع الجماهير، فإن النخبة تعزل نفسها وتطالب بالطاعة من الجماهير. تُطَوِّر مثل هذه الجماعات أنماطا عقائدية في التفكير يكون فيها اختبار الصواب عادة موجودًا في الماضي البعيد، في سيّد، أو منقذ أسطوري إلى حد ما. تكتسب الحياة الجماعية طابعا احتفاليا ويكون الوصول إلى الدائرة الباطنية محميا جدّا. تسيطر نزعة المحافظة: لا يوجد مكان للأفكار الجديدة بشكل أساسي، ويمكن للمرء فقط أن يدرك بشكل أفضل أو أسوأ المبادئ التي تم الكشف عنها. هذه السمة هي التي تميّز معظم التجمعات الدينية.

أمّا إذا ما كان موقع الجماهير أقوى من موقع النخبة، كما هو الحال في التجمعات العلمية، فإن النخبة تسعى للحصول على ثقة الجماهير وتقديرها، متعهدّة في الوقت نفسه بالتزامها بخدمة الصالح العام. هذا التجمع له طابع ديمقراطي: اختبار الصحة هو «الاعتراف من لدن الجميع» كما أنّ التشجيع على التعلّم يناله الكلّ، ويمكن لأي شخص يستوفي المعايير الفكرية أن يصبح عضوا في الدائرة الباطنية. يُنظر إلى جميع العاملين في مجال البحث، من حيث المبدأ، على أنهم يتمتعون بحقوق متساوية. من حيث المبدأ، يجب أن يكون كل فرد -وليس فقط النخبة ذات الامتيازات الخاصة- قادرا على التحقّق مما إذا كانت العبارة صحيحة أم لا، أو تكرار تجربة أجراها شخص آخر وما إلى ذلك. هنا تنشأ مشكلة غير قابلة للحلّ، وهي أنّ الانضمام إلى الجماعة العلمية للتحقّق من صدق العبارات، يكون مشروطا بالحصول على تعليم عام في المدارس قبل النضج، وإذا لم يُحقَّق هذا الشرط، فإنّ الفرد محكوم عليه عمليا بالبقاء خارج الجماعة العلمية، ففي العلم لا يمكن أن تحدث أي عملية نقل من عامّة الناس غير المتعلّمين إلى فئة العلماء المتخصّصين، وعلى ذلك فإنّ الاحترام الديمقراطي لهذه الخصيصة التي تميّز العلوم تمنح الأساليب الفكرية طابعا غير شخصي، يؤدّي بدوره إلى موضوعية الهياكل الفكرية التي أنشأها المجتمع، ولهذا تصبح الحقيقةُ الموضوعية والمعبّر عنها بوضوح ودقّةٍ مثاليةً.

ينشأ جزء من المزاج الجماعي عند نقطة الاتصال بين الدوائر الباطنية والخارجية. حيث يثق أعضاء الدوائر الخارجية بالمتخصّصين ويعجبون بهم في الكثير الغالب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل الدوائر الباطنية تحت ضغط توقعات الجماهير، لهذا السبب لا يحقّق أي مجال علمي معيّن إنجازات كبيرة إذا ما كان يفتقر إلى الدّعم من الخارج. وعكس ذلك هو، عندما تجعل بعض الضغوط الاجتماعية عددا كافيا من الباحثين يعملون لفترة كافية على قضية معينة ويحصلون على دعم مادي كافٍ، فإنهم يصلون أخيرا إلى نتائج مرضية ولو إلى حدّ ما.

تكوين أسلوب الفكر والحقائق وتطويرها

إن الاحترام الديمقراطي المتساوي للجميع يجعل العلماء يكتبون أعمالًا شعبية لتعريف الأشخاص العاديين -بقدر الإمكان- بحالة المعرفة الحالية. يستعملون لغة مشتركة مفهومة على نطاق واسع، ومليئة بالتعبيرات غير الدقيقة والاستعارات، نظرًا لأن النصوص الشائعة لا تتضمّن التعقيدات كالتي يمكن أن يجدها يوميا الشخص المحترف في عمله، كما أنّ المؤلّف يعتبر نفسه سلطة حينما يتحدث إلى جمهوره، لذلك تغدو مثل هذه الكتب والمقالات ذات طابع عقائدي dogmatic. إنّ ما يشيع في المُناقلات العلمية من تعبيرات، مثل «يبدو أنّ» أو «كما حاولنا إثبات»، تُصبح في الأعمال الشعبية، «إنّها حقيقة» أو «كما أثبت العلم» وهذا له آثار خطيرة (وإن لم يكن مقصودا) على تطوّر العلم نفسه. بالنسبة لأولئك الذين سيصبحون علماء في المستقبل، يكون اتّصالهم الأوّل بتخصّص معيّن من خلال ما كُتب عنه في الأعمال الشعبية، وعلى هذا النحو فإنّ ما أنشأته جماعة من الناس يكتسب صفة غير شخصية ومستقلّة، «فالمسافة الاجتماعية تُحوّل المؤلف من مبدع إلى مكتشف»، وعلى هذا النحو ينشأ «المَثَل الأعلى الأسطوري للمعرفة على اعتبارها تمثيلا للواقع المستقل عن موضوع الإدراك».

ثمّ يبدأ المرء بعد ذلك في قراءة الكتب الدراسية المقرّرة في الجامعة، وإجراء التجارب تحت إشراف جماعة من المتخصّصين، وهذه المقدّمة التي يبدأ بها المرء في هذا المجال هي في ذاتها ذات طابع عقائدي أيضا. يتمّ إقحام عقل الفرد في «عالم قائم بذاته» يكتسب منه لغزا غريبا. وأخيرا، يصبح بعض الأشخاص أعضاء كاملي العضوية في جماعة فكرية وفي تخصّص علمي معيّن، «فالخبير هو بالفعل فرد صُبّ في قالب، فلم يعد قادرا على الهروب من روابط التقاليد والجماعة؛ وإلاّ فإنّه سوف لن يَحْظَ بصفة خبير».

الآن وقد أصبح المرء متخصّصا، يبدأ في مواجهة بعض مشاكل البحث، وهو لا يواجهها بمفرده، بل هو عضو في جماعة، حيث ينظر الجميع إلى العالَم بشكل متشابه ويفكّرون فيه بالطريقة نفسها تقريبا، وإذا ما ظهرت قضية ما جديدة، فلا يمكن تحقيق النجاح إزاءها إلاّ إذا شاركت مجموعة العلماء كلها، عادة ما تكون الظواهر التي تُحلَّل معقّدة جدّا، ومتنوّعة، وتتطلّب تمييزا، وفصلا، وتوحيدا، وتبسيطا، وهذه المهام كلّها تتجاوز قدرة أي باحث بمفرده، «من خلال البحث التعاوني المنظّم فقط، والمدعوم بالمعرفة الشعبية والمستمرّ عبر عدّة أجيال، يمكن أن تبرز صورة موحّدة».

عندما لا تُفحص الظواهر بشكل كافٍ، فإننا نفتقر إلى المفاهيم التي يمكننا من خلالها وصف هذه الظواهر بشكل مناسب. ولا يمكننا أيضا أن نبدأ بجمع الحقائق مباشرة كما هو شائع -وما زال البعض يعتقد ذلك اليوم- كان يُنظر إلى الحقائق على أنها ما هو معطى ويمكن الوصول إليه من خلال الحواس. ادعى التجريبيون المعاصرون أنه لا يوجد شيء في العقل ما لم يكن أوّل مرّة في الحواس، عَكَس «فليك» هذه المقولة: لا يوجد شيء في الحواس ما لم يكن أول مرّة في العقل. لذا، لكي ندرك علينا أن نتعلم شيئا من قبل. ليس الأمر كذلك، أن نرى أولا بعض الخطوط المتحركة ثم نقوم بتشكيل الكلّ، بل على العكس تماما:

«نتجول دون رؤية أي نقاط أو خطوط أو زوايا أو ضوء أو ظلال، والتي من خلالها يتعين علينا ترتيب «ما هذا» من خلال التوليف أو التفكير، ولكننا نرى في الحال منزلا، أو نصبا تذكاريا في مربع، أو مفرزة من جنود، أو نافذة مكتبة، أو مجموعة أطفال، أو سيّدة مع كلب، كلهم ​​أشكال جاهزة (...) نحن ننظر بأعيننا، لكنّنا نرى بأعين الجسد الجماعي، نرى الأشكال التي يخلق الجسم الجماعي إحساسها ونطاقها من التبديلات المسموح بها»

لقد نُقلت هذه المجموعة من الأشكال إلى الفرد في عملية التنشئة الاجتماعية. عندما نحضر شخصا عاديا إلى المخبر ونطلب منه وصف مسار من التجارب العلمية، سيكتشف المحترفون على الفور أنه غير قادر على القيام بذلك. من المؤكد أنه سينشئ وصفا طويلا ويطرح الكثير من التفاصيل غير المهمّة أو العَرَضية، لكنّه لن يهتم بما هو مهمّ من وجهة نظر العالِم. إذا أردنا بالضرورة تقديم تجربته بالكلمات، فإن الشعار الأكثر ملاءمة سيكون: «أنا أبحث» أو «لدي فوضى». يرى الخبير بشكل مختلف عن الشخص العادي، لأنه خضع لتدريب خاصّ تعرّف خلاله على العديد من الأمثلة -على سبيل المثال أعراض مرض معين وأعراض أمراض أخرى في الوقت نفسه- (وهكذا، مع ما يكون «س»، ومع ما لا يكون)، وفي الوقت نفسه قد تمّ تجهيزه بمجموعة من الآراء حول ماهية هذا المرض وتطوّره، وحول كيفية تأثره بالظروف الخارجية، وما إلى ذلك، وبالتالي إذا نجحت عملية التدريب، فسيكون عضوا جديدا في الإرادة الجماعية، يرى بشكل مباشر نفس ما يراه الأعضاء الآخرون «بأمّ أعينهم». وكما يقول فليك: «أن ترى» تعني: إعادة إنشاء، في لحظة مناسبة، الصورة التي أنشأتها الجماعة الفكرية التي ينتمي إليها المرء.

ومع ذلك، فعندما يبدأ متخصّص في البحث عن ظواهر من نوع جديد، يكون في موقف الشخص العادي نفسه: فهو لا يعرف ماذا يراقب وكيف، لا يتعرف على أشكال معيّنة، فهو يعاني من الفوضى التي يصعب فيها فهم أي شيء ثابت، ولهذا السبب -كما ذُكر آنفا- لا يستطيع العلماء البدء بجمع البيانات التجريبية. يؤكد «فليك» أيضا على أنه لا يوجد ابتكار تلقائي للمفاهيم. هذا هو السبب في أن البحث الجديد يبدأ عادة -وإن لم يكن دائما- من الأفكار الأوّلية التي غالبا ما تكون ذات طابع ديني أو فلسفي، والتي كانت موجودة قبل قرون من اكتساب الشخصية العلمية. على سبيل المثال، قبل كوبرنيكوس بفترة طويلة كانت هناك فكرة أولية عن نظام مركزية الشمس، قبل لافوازييه كانت هناك فكرة عن العناصر الكيميائية، قبل دالتون كانت هناك فكرة عن الذرة، وقبل «ليوينهوك» Leeuwenhoek كانت هناك فكرة عن «الميكروب». الأفكار الأولية غامضة، وبالتالي لا يمكن اعتبارها صحيحة أو خاطئة في الفهم العلمي، على الرغم من أنها كانت صحيحة بالنسبة لأعضاء الجماعات الفكرية المقابلة. لكنها يمكن أن تصبح نقطة انطلاق للتحقيق.

لا يمكن إجراء البحوث العلمية من قبل باحث منعزل، لأنه كمن يطارد ذيله إلى ما لا نهاية، وذلك بتكرار الصيغ القديمة، وكما ذكر آنفا، فإن تكوين جماعة بحثية أمر ضروري، ويحدث عندما تنشأ حالة مزاجية مناسبة، مزاج يوحّد الناس ويجعلهم يعملون. في حالة البحث الذي تم تحليله بواسطة «فليك»، أي البحث الذي أدى إلى اكتشاف رِجاع (ردّ فعل) واسرمان Wassermann، كان مصدر الحالة المزاجية المناسبة هو الضغط الاجتماعي، وهو المطالبة بابتكار وسائل فعّالة لعلاج مرض الزهري، والذي كان يعتبر محرجا ومرضا ضارّا بالسمعة. قدّم «فليك» ادعاء مثيرا للجدل مفاده، أن عدم وجود أي نجاح مشابه في مكافحة السلّ كان مرتبطا بنهج شائع لمرض السلّ باعتباره «مرضا رومانسيا»، مما أدّى بدوره إلى ضغط اجتماعي ضعيف لم يكن كافيا للتغلب عليه، ولأنّ مرض الزهري مرض مضرّ بالسمعة ومُخزٍ، دفع هذا الأمر الحكومةَ الألمانية لتنضمّ إلى عملية تنظيم فرق البحث في هذا المجال؛ وبسبب آخر أضافته الحكومة أيضا وهو جعل إنجازات العلماء الألمان تفوق إنجازات الدول الأخرى. وقد أعطى هذا المزاج قوة دافعة، من الفكرة الأوّلية التي ترى أنّ الزهري مرض مخزٍ إلى الاتجاه نحو التغلّب عليه.

إذا شاركت مجموعة من الأشخاص في نَهْجَل (برنامج) بحثي، تحدث عملية غريبة، حيث يقرأ كلّ عضو في الجماعة نصوصا مختلفة (شعبية ومِهْنية على حد سواء)، ويشارك في تجارب مختلفة، وينتمي إلى جماعات فكرية مختلفة تقريبا (علمية وغير علمية). لذلك، عندما يبدؤون في التحدّث إلى بعضهم البعض وقراءة بحوث بعضهم البعض، تظهر سَتَلة من سوء الفهم. تنتشر الأفكار في إطار جماعي وتثريها روابط جديدة، وبالتالي فإن الكلمات المستعملة تُغيَّر معانيها. في بعض الأحيان لا يتبقّى شيء من المعاني الأصلية التي قصدها المشاركون في تبادل الأفكار. في بعض الأحيان، تنبع التغييرات من صراع الأفكار الأولية المختلفة، وهذا الصدام في حدّ ذاته هو نتيجة عوامل اجتماعية مختلفة. بعد إجراء عدد لا يحصى من الدراسات والمحادثات والانطلاق في رحلة طويلة، ابتكر العلماء أخيرا أسلوبا فكريا لم يقصده أحد. وبعد أن حدث هذا، لا أحد يعرف متى وكيف بدأ هذا الأسلوب في العمل، ومن أنشأه تحديدا.

«تنتقل الأفكار من فرد إلى آخر، وفي كل مرة يتم تغييرها قليلا، يمكن لكل فرد أن يضيف إليها بعض الزيادات المختلفة نوعا ما. بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يفهم المُستقبِل مطلقا الفكرة على نحو كامل بالطريقة التي قصد المرسِل أن تُفهم بها. بعد سلسلة من هذه اللقاءات، لا يتبقّى عمليا أي شيء من المحتوى الأصلي. ما هو الفكر الذي يستمر في الانتشار؟ من الواضح أنه ذلك الذي لا ينتمي إلى أي فرد، بل ينتمي إلى المجموعة». بالطبع لا يمكن إعادة بناء هذه العملية بشكل منطقي -أحد العناصر المهمة فيها هو سوء الفهم بين الباحثين.

جنبا إلى جنب مع طفرة الأفكار، تحدث أشكال جديدة معترف بها في الأحاسيس. أولا، عند ملاحظة ظواهر من نوع جديد، يدرك المرء مجموعة الأشكال المعروفة -ويبدأ في إدراك ما هو هذا، وما هو الجديد، أحيانا وفي ظل احترام معيّن، فإنّ هذا يشبه ما هو معروف، ولكن في بعض الأوقات الأخرى وتحت جوانب أخرى، أنّ هذا هو كذلك مختلف. في هذه الفترة، تمتلئ أوصاف نتائج التجارب بمقارنات مع ما تعلمه المرء سابقا أن يدركه، ولكنها أيضا مليئة بالأحكام التي لا يمكن في بعض الأحيان في هذه المقارنات الاعتماد عليها. تتجلّى عدم الموثوقية في عدم تكرار التجارب الأولية: شيء ما يسير بشكل مختلف عن ذي قبل، ولا نعرف سببا لذلك، ولا ما الذي يجب فعله من أجل الحصول على النتيجة نفسها في المرة القادمة. هذا يثير المخاوف والاستعداد للتغيير. باحث يتصرف بشكل أعمى إلى حدّ ما.

«إن عمل الباحث يعني أنه في حالة الارتباك والفوضى المعقّدة التي يواجهها، يجب عليه التمييز بين ما يطيع إرادته وبين ما ينشأ بشكل عفوي ويعارضها. هذا هو الأساس الراسخ الذي يسعى إليه باستمرار، بصفته ممثّلا للفكر الجماعي»

التغييرات في طريقة الرؤية لا يمكن -كما قيل آنفا- أن يقوم بها الفرد. يتمّ تداول أوصاف التجارب بين العلماء، ومرة ​​أخرى نتيجة لسوء الفهم والتفاهم، يتم إعادة تصميم الأشكال التقليدية (وهذه الحقيقة لم يلاحظها المشاركون في تلك العملية)، وبعضها مرفوض، والبعض الآخر متصل بأجزاء فريدة، «وأخيرا، يتم تشكيل استعداد جديد، أي الاستعداد لرؤية شكل جديد محدّد». أخيرا، في الأوصاف المنشورة في المُناقلات المِهْنية professional papers، تختفي المقارنات ويُقال: هذا وذاك قد لوحظ.

وبالتالي، من المستحيل رؤية شيء جديد جذريا «ببساطة وفوريا»: يجب أوّلا إزالة قيود أسلوب التفكير القديم، وظهور أسلوب جديد، ويجب تغيير مزاج الفكر الجماعي -وهذا يستغرق وقتا ويتطلّب أيضا العمل مع الآخرين. في سياق التبادل بين الأشخاص، تتطور المفاهيم وتتطور الحقائق معا. وهذا بدوره يحفّز خلق مفاهيم جديدة.

في بعض الأحيان تأتي الأفكار الجديدة من اتجاهات غير متوقعة وبدون أي علاقة بالعلم نفسه. هذه هي الطريقة التي يشرح بها «فليك» اكتشاف المَنا (الحيوانات المنوية) الذي حدث مع سقوط الحكم المطلق السياسي، وتعميم فكرة الحرية الفردية، التي تُفهم أساسا على أنها حرّية الحركة الشخصية. لا يمكن للمرء أن يكتشف المَنا بمجرد النظر من خلال المجهر. ومع ذلك، يمكن للشخص الذي يفكّر في شخص حر، أن يلاحظ المَنا وهو يتحرك بحرية. كان هذا هو تأثير البيئة الذي خلق مزاجا مضطربا ضروريا للبحث عن شيء جديد. لقد أُدرك هذا النمط الجديد من التفكير الذي أُنشئ في مجال مختلف من الحياة، ووُصف، وتمّ تمييزه بطريقة من شأنها أن تحفّز انعكاسات الآخرين -أولئك الذين يشاركون في التغيرات الاجتماعية الثورية أيضا.

قبل ظهور الأشكال الحسية والفكرية الجديدة، يجب أن تنشأ «اضطرابات فكرية محدّدة وتغيير في الحالة المزاجية للفكر الجماعي». إذا قام شخص باكتشاف مهمّ ولكن الحالة المزاجية الاجتماعية لا تتغير، فلن يكون هناك أشخاص يتبنون هذه الأفكار الجديدة، بل يستمرّ البحث بالطريقة القديمة. من ناحية أخرى، تعتمد الحقائق على بعضها البعض، لذا فإن «كل حقيقة جديدة بشكل متناغم - رغم أنها طفيفة - تغير جميع الحقائق السابقة»، نتيجة لذلك، يحدث أحيانا أن تلك الملاحظات الأولية التي بدأ منها بحث معين لا تنتمي إلى فئة الحقائق نفسها التي خرجت منها أوّل مرّة. في بعض الأحيان لا يتبقّى أي شيء من الأفكار الأولية التي بدأت منها التحقيقات والتي ألهمت العمل التجريبي المبكر. مثل الفكرة الأولية لدم الزهري لا علاقة لها برِجاع «واسرمان» Wassermann المعاصر. وأخيرا ينشأ صرح المعرفة الذي لم يقصده أحد ولم يتوقعه أحد، ولكن عندما يتطور أسلوب فكري معيّن ويسيطر على عقول الباحثين، تنغلق طرق التطوير البديلة.

بالطبع، سلسلة من سوء الفهم لا تكفي لخلق أسلوب فكري يربط بين الجميع. هذا هو السبب في وجود نظام معيّن، فإن الجسم الرئيس للدائرة الباطنية ضروري، المجموعة المكوّنة من المتخصصين العامّين على استعداد جيد للاختيار من بين مقترحات الطليعة تلك الأكثر فائدة، وتوضيحها وتوظيفها وتنسيقها مع بعضها بعضا أي إنشاء نظام من مجموعة من المطالبات المؤقتة الموجودة في المناقلات العلمية التي تستهدف المحترفين، ونقل هذا النظام إلى الجيل التالي من الباحثين. يحدث هذا عندما يتم إنشاء الكتب المدرسية. ينعكس التركيب الاجتماعي للفكر العلمي الجماعي في أنواع المؤلفات العلمية. تتم كتابة المناقلات في المجلات العلمية من قبل علماء يعملون عمليا على مشكلة معينة ويستهدفون علماء آخرين. يكتب المتخصّصون الأكثر عمومية كتبا دراسية لتوحيد دائرتهم الباطنية وتثقيف أعضائها الجدد. الأعمال الشعبية موجهة إلى الدوائر الخارجية.

يعتمد انتصار أي أسلوب فكري جديد على ما إذا كان من الممكن وجود جيل جديد يتبنّاه، مع منع تأثيرات الأساليب الأخرى. يجب نشر مشكلات بحثية معينة، ويجب إزالة مشكلات أخرى. يجب خلق استعداد ذهني معين بين أتباع العلم، لأنّ كل إدراك هو فعل اجتماعي. عندما يتحقق ذلك، فإن جميع الباحثين «سيرون الشكل الجديد مباشرة، بأعينهم، كما لو كان هو الحقيقة الوحيدة الأبدية، المستقلة عن الناس». يلخّص فليك ذلك بقوله في نهاية حياته: «كل إدراك هو فعل اجتماعي (...) لأنه خلال كل تبادل دائم للأفكار تظهر وتنمو الأفكار والمعايير التي لا ترتبط بأي مؤلِّف فردي. يتطور نمط التفكير الجماعي الذي يربط جميع المشاركين، وبالتأكيد يحدّد كل فعل من أعمال الإدراك. لذلك، يجب النظر إلى الإدراك كدالة من ثلاثة مكونات: إنها علاقة بين الذات الفردية، والموضوع المحدّد ومجتمع التفكير المحدّد (Denkkollektiv) حيث تعمل الذات؛ والتي لا تعمل إلاّ عند استعمال أسلوب معين من التفكير (Denkstil) قد نشأ في مجتمع معين».

إنّ انتصار أسلوب فكري معين لن يكون نهائيا أبدا. كل اكتشاف تجريبي جديد وكل فكرة نظرية تغير النظام بأكمله بشكل أو بآخر. حتى لو رأى المرء في البداية ما يتوافق مع النظرية فقط، بعد فترة تظهر تعقيدات واستثناءات (شذوذ كوهن) والتي تؤدي عاجلا أم آجلا إلى مراجعة المفاهيم والافتراضات. تحدث باستمرار «الطفرات» في أسلوب التفكير، مثل التحولات المعاصرة في الريزياء أو في علم الجراثيم. عاجلا أم آجلا سوف يتعين علينا تغيير قانون حفظ الطاقة مثلا، أو أي مفهوم آخر أو ادّعاء. في التطور التاريخي للعلم لا يوجد شيء محّدد بشكل نهائي، لا شيء ثابت. كل من التفكير والحقائق تتغيّر.

تعليق

قبل الحرب الأممية الثانية، ظهرت تسعة عشر مراجعة لكتاب فليك عن «نشوء حقيقة علمية وتطوّرها»، معظمها إيجابي، ومع ذلك، فقد نُشرت واحدة فقط في مجلّة فلسفية، ونشر الباقي في المجلاّت والجرائد الطبّية أو الشعبية. بعد الحرب الأممية الثانية، نُسي عمل «فليك» في نظرية المعرفة تماما، على الرغم أنّ عمله هذا قد جاء ذكره في مقدّمة كتاب س. كوهن: «بِنية الثورات العلمية» حيث أشار إليه على اعتباره أحد مصادر أفكاره الخاصّة. ولكن لمدة خمسة عشر عاما على الأقل، خلال المناقشات الحادّة التي أثارها كتاب «كوهن»، لم يتنبّه أي أحد لهذه الملاحظة. لم تكن سوى مناقلة «ويلهلم بالداموس» Wilhelm Baldamus, 1977 وكتاب لتلميذه «توماس شنيل» Thomas Schnelle, 1982 اللذين سلطا الضوء على فلسفة «فليك» وعلم اجتماع العلوم، وأثارا اهتماما أوسع به. أعيد نشر كتاب «فليك» باللغة الألمانية عام 1980م. وكانت قد ظهرت ترجمته الكَلَزية سنة 1979م بعُلْوان «خلق حقيقة علمية ونموّها» أو «نشوء حقيقة علمية وتطوّرها». وبين عامي 1986 و1990، أصبحت معظم مناقلات «فليك» المعرفية متاحة باللغة الكلزية. تمت ترجمة كتاب «فليك» إلى الإيطالية، والبولندية، والإسبانية، والسويدية، والروسية، والكورية، والفرنسية، والبرتغالية البرازيلية، والظاهر أنّه لا توجد له ترجمة بالعربية. يُعتبر «فليك» اليوم في العالم الناطق باللغة الكلزية في الغالب رائدا غير محترِم لنظرية «توماس كوهن» للثورات العلمية. في مجتمع الفلاسفة وعلماء اجتماع العلم الناطقين بالألمانية، يُعتبر «فليك» عالِما عِلْمِيائيا (إبستيمولوجيا) أصيلا للغاية، حيث يقدّم المعرفة البشرية بطريقة غريبة واستكشافية تتخطّى بشكل كبير أطروحات «كوهن».

مترادف

لودويك فليك

مصطلح قريب

لغة كلزية

Ludwik Fleck
مراجع

  • العلم والثقافة والمجتمع، فهم العلم في القرن الحادي والعشرين. مارك إريكسون، ترجمة: محمود خيال. المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2014م. القاهرة، مصر.
  • plato.stanford.edu/entries/fleck

لودفيك فليك (1896-1961م)، مصدر الصورة: ويكيبيديا.